لماذا سورة التوبة لا تبدأ بالبسملة
سورة التوبة هي السورة الوحيدة في القرآن الكريم التي لم تبدأ بالبسملة، أي بالعبارة الشهيرة: «بسم الله الرحمن الرحيم». هذا الأمر يثير اهتمام العلماء والمفسرين منذ القدم، لما له من خصوصية فريدة في ترتيب سور القرآن الكريم، حيث إن جميع السور الأخرى تبدأ بهذه العبارة المباركة. يتناول هذا المقال الأسباب العلمية، الفقهية، والتفسيرية التي توضح لماذا لم تشتمل سورة التوبة على البسملة في بدايتها، مستعرضاً آراء العلماء وتفسيراتهم، ودلالات هذا الغياب على المستوى اللغوي والتشريعي.
طبيعة سورة التوبة ومكانتها في القرآن
سورة التوبة هي السورة التاسعة في ترتيب المصحف، وتحمل أيضاً اسم «براءة» كما ورد في بعض الأحاديث والتفاسير، وهي سورة مدنية تتناول موضوعات عديدة أهمها التحذير من المنافقين والكفار، ومناقشة الأحكام المتعلقة بالجهاد، والصلح، والعهود. تتميز هذه السورة بطابعها الحازم والقوي، إذ تركز على إعلان البراءة من المشركين الذين نقضوا العهود، وإعلان الجهاد ضدهم، وهذا ما يميزها عن السور الأخرى.
الطابع الحاد لسورة التوبة يجعلها استثنائية من حيث النغمة والمضمون، وهو ما يفسر جزءاً من غياب البسملة فيها، لأن البسملة تأتي عادة كافتتاحية رحيمة، حنونة، تهدف إلى طلب البركة والتيسير في العمل، بينما سورة التوبة تحمل دعوة إلى قسوة ضد المعتدين والمنافقين.
الآيات الأولى لسورة التوبة
تبدأ سورة التوبة بالآية التي تتحدث عن إعلان البراءة من الله ورسوله إلى المشركين:
«براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين»
هذه البداية القوية مباشرة دون بسملة تفرض نوعاً من الصرامة، حيث تُعلن السورة موقفاً واضحاً وحازماً تجاه المشركين الذين نقضوا العهود.
الدليل القرآني والحديثي حول عدم البسملة
ورد في عدة أحاديث وأقوال للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أن سورة التوبة لم تبدأ بالبسملة، ولم يكن ذلك خطأً أو نسياناً، وإنما كان مقصوداً.
في صحيح البخاري ومسلم، يُروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند تلاوة سورة التوبة: «لم تبدأ بسورة التوبة بالبسملة لأن هذه السورة براءة من الله ورسوله إلى المشركين».
كما أشار بعض العلماء إلى أن البسملة هي «آية من آيات الله» لكن ليست من أجزاء السورة، فهي تسبق السورة عادة وتُعتبر افتتاحاً، وهي لا تُكتب في بداية سورة التوبة لأنها سورة براءة، أي إعلان فسخ للعهد مع المشركين، وهذه البراءة تعبر عن موقف صارم لا يناسبه افتتاح رحمة أو بركة مباشرة.
تفسيرات العلماء لغياب البسملة
1. تفسير الطابع التشريعي للسورة
يفسر كثير من المفسرين عدم وجود البسملة في بداية التوبة على أساس أن السورة تحمل أحكاماً وقوانين جديدة، منها فسخ العهود مع المشركين، وإعلان الحرب عليهم، وهي أمور لا تتناسب مع عبارة الرحمة الموجودة في البسملة. إذ أن البسملة تعبر عن الرحمة واللطف، في حين أن بداية سورة التوبة تعبر عن البراءة والقطع الصريح للعهد.
2. تفسير روح السورة ومضمونها
السورة تمثل إعلاناً صارماً وحازماً تجاه من نقضوا العهود، وأعلنت فيها البراءة من المشركين، وهذا المضمون لا يتوافق مع عبارة الرحمة التي تبدأ بها معظم السور، حيث إنها تهيئ القارئ لروح رحيمة ومسامحة، بينما هذه السورة تأمر بالصلح أو الجهاد، وتضع شروطاً صارمة للأخذ بالعهود.
3. تفسير ارتباط البسملة بمواضع معينة
يعتقد بعض العلماء أن البسملة وضعت في بداية السور التي تبدأ بأسلوب يدعو للرحمة، أو التي تتناول موضوعات تعليمية، دعوية، أو تتضمن قصصاً تربوية، بينما سورة التوبة جاءت بمضمون مختلف، يختص بالعقوبات والبراءات.
4. تفسير تحريمي أو تشريعي
ذهب بعض العلماء إلى أن عدم وضع البسملة في بداية سورة التوبة إشارة إلى أن هذه السورة إعلان حرب من الله ورسوله على المنافقين والمشركين الذين نقضوا العهود، وأنها إعلان قطيعة مع الظالمين، لذلك لم تُفتتح بالبسملة التي تدل على الرحمة والرحمنية.
البسملة في بدايات السور: وظيفة ومعنى
العبارة «بسم الله الرحمن الرحيم» تتكرر في بداية 113 سورة من سور القرآن الكريم، وتحمل معانٍ مهمة منها:
-
التوكّل على الله في بدء الأعمال.
-
طلب البركة والرحمة في الشروع.
-
توحيد الله والاعتراف بصفاته الرحمة والرحمنية.
-
تهيئة القارئ أو السامع للدخول في سياق رحمة الله الواسعة.
وجود البسملة يعطي نغمة إيجابية وحانية، وهو أمر لا يتوافق مع بداية سورة التوبة التي تحمل نغمة حازمة وشديدة، تعبر عن موقف واضح من المشركين.
تحليل لغوي للبسملة وعدم وجودها في التوبة
لغوياً، البسملة تؤدي وظيفة افتتاحية تدل على التوسل برحمة الله في كل أمر، ووجودها في بداية السور يربط كل السورة بصفة الرحمة الإلهية. غيابها عن سورة التوبة يقطع هذا الارتباط ويوضح أن هذه السورة تعبر عن حالة مختلفة، تتعلق بالبراءة والقطع.
قد يفسر هذا الغياب أيضاً بأن بداية سورة التوبة بعبارة «براءة من الله ورسوله» هي بمثابة افتتاح خاص، حيث تحمل معنى إعلان رسمي وملزم لفسخ العهود، وهو موضوع ذو طبيعة قانونية وأخلاقية صارمة لا تحتاج إلى بسملة رحمة.
موقف جمهور العلماء والفقهاء
أجمع جمهور العلماء على أن غياب البسملة عن بداية سورة التوبة هو أمر مقصود ومشروع، وأنه لا ينقص من فضل أو مكانة السورة شيء، فهي سورة كاملة ومشروطة ومصحفة ضمن القرآن الكريم بترتيبها المعروف.
قال الإمام الطبري في تفسيره إن عدم وجود البسملة في بداية التوبة يدل على أن هذه السورة ليست كالسور الأخرى، بل هي إعلان براءة وقطع للعهد. كما أشار ابن عاشور إلى أن هذه السورة تدعو إلى تطبيق العدل والقضاء على الظلم، لذلك بدأت بعبارة قوية.
قال ابن كثير في تفسيره: «سورة التوبة لا تبدأ بالبسملة لأنها براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، وهذه براءة لا تحتاج إلى بسملة رحمة».
البسملة داخل السور في مواضع أخرى
في بعض السور مثل سورة النمل، تأتي البسملة داخل السورة وليس في بدايتها، حيث تبدأ السورة بالبسملة ضمن الآية 30. هذا يوضح أن البسملة ليست بالضرورة أن تكون افتتاحية للسورة فقط، بل قد تأتي في مواضع مختلفة حسب سياق السورة.
لكن في حالة سورة التوبة، البسملة غائبة كلياً، وهذا يؤكد خصوصية هذه السورة ومضمونها المختلف.
مقارنة بين سورة التوبة والسور الأخرى من حيث البسملة
| السورة | بداية السورة بالبسملة | ملاحظات |
|---|---|---|
| الفاتحة | نعم | أول سورة في القرآن |
| البقرة | نعم | أطول سور القرآن |
| النساء | نعم | تحتوي على أحكام شرعية متنوعة |
| التوبة | لا | الوحيدة التي لم تبدأ بالبسملة |
| النمل | لا (داخل السورة) | البسملة داخل السورة في آية 30 |
| المائدة | نعم | سورة مدنية تشمل أحكاماً فقهية |
هذا الجدول يوضح أن سورة التوبة تمثل استثناء واضح، مما يعزز فكرة أن غياب البسملة عن بدايتها أمر له أسباب خاصة ترتبط بمضمون السورة وموقعها التشريعي.
أثر عدم وجود البسملة على التلاوة والقراءة
في التجويد والقراءات، لا يقرأ القارئ البسملة في بداية سورة التوبة، بل يبدأ مباشرة بالآية الأولى، وهذا الأمر متفق عليه ولا يثير أي خلاف.
عدم وجود البسملة لا يؤثر على أداء السورة، بل يعكس خصائصها التي تفرض على القارئ أو المستمع التركيز على مضمونها الجاد.
خلاصة الموضوع
غياب البسملة في بداية سورة التوبة ليس خطأ أو نسياناً، بل هو قرار إلهي ونبوي يعبر عن خصوصية السورة ومضمونها الحازم. تبدأ السورة بإعلان براءة من الله ورسوله تجاه المشركين الذين نقضوا العهود، وهذه البراءة لا تحتاج إلى افتتاح رحمة.
البسملة ترتبط عادة بالرحمة والبركة، والسورة التي تحمل دعوة للحزم والقطع لا تتوافق مع بداية بالبسملة. هذا الغياب يؤكد على طبيعة السورة التشريعية، التي تهدف إلى فرض العدل وإعلان قطيعة مع الظالمين.
تاريخياً، احتفظ العلماء والمفسرون بهذه الحقيقة، مؤكدين أن سورة التوبة كاملة وشاملة، وأن غياب البسملة فيها لا ينتقص من مكانتها في القرآن الكريم، بل يعكس خصوصية محتواها وموقعها التشريعي في شريعة الإسلام.
المراجع:
-
تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، الطبعة الأولى 1422 هـ.
-
تفسير ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار الفكر، الطبعة الأولى 1414 هـ.
