سبب سقوط تلسكوب هابل
منذ إطلاقه في أبريل عام 1990، شكّل تلسكوب هابل الفضائي نقلة نوعية في عالم الفلك والفضاء، فقد استطاع هذا المرصد المتقدم أن يقدم للعالم صوراً مذهلة للمجرات والنجوم والسدم، وساهم في إحداث تغييرات جذرية في فهمنا للكون. وعلى مدار أكثر من ثلاثة عقود من العمل في المدار الأرضي، أصبح هابل أحد أعمدة العلم الفلكي الحديث، ومصدراً لا يُقدّر بثمن للمعلومات والصور التي غيرت النظريات السابقة حول تشكل المجرات، توسع الكون، وتوزيع المادة المظلمة.
إلا أن هذا التلسكوب العملاق، الذي كان أيقونة للعلوم الحديثة، لم يكن محصّناً ضد تأثيرات الزمن والتقنية. فمع مرور السنوات، وتطور الأجهزة العلمية، بدأت بعض مشكلات هابل التقنية تظهر بشكل متزايد، ما دفع وكالات الفضاء المعنية إلى دراسة الخيارات المتاحة بشأن مستقبله، سواء من حيث صيانته أو إنهاء مهمته بطريقة محكومة وآمنة. في هذا المقال، سنستعرض بشكل مفصل الأسباب التي دفعت وكالة ناسا إلى الإعلان عن اقتراب تلسكوب هابل من نهاية خدمته، مع التركيز على الأسباب العلمية والتقنية والهندسية التي قد تؤدي إلى سقوطه المحتم في الغلاف الجوي.
بداية مهمة هابل ونجاحه الباهر
عند إطلاق تلسكوب هابل عبر مكوك الفضاء “ديسكفري” في مهمة STS-31، كانت الرؤية أن يبقى التلسكوب في المدار لعقود طويلة، على أن يتم تحديثه عبر رحلات مكوكية دورية. وقد تحقق ذلك بالفعل، حيث تم تنفيذ خمس مهام صيانة بشرية من قبل رواد فضاء وكالة ناسا بين عامي 1993 و2009، تم خلالها إصلاح أعطاله، وترقية أجهزته، وتبديل مكوناته الإلكترونية والبصرية.
قدم هابل اكتشافات غيّرت مفاهيمنا حول توسع الكون وسرعته، ومكن العلماء من تحديد عمر الكون بدقة أكبر، كما كشف عن وجود كواكب خارج النظام الشمسي، وصوّر مناطق ولادة النجوم، ومجالات المادة السوداء والطاقة المظلمة.
التدهور التدريجي للمكونات التقنية
من أبرز الأسباب التي تؤدي إلى قرب سقوط تلسكوب هابل هو التدهور المستمر في مكوناته التقنية، وهو أمر طبيعي في بيئة الفضاء القاسية. وعلى الرغم من التصميم الهندسي الدقيق للتلسكوب، فإن تعرضه المستمر للإشعاع الشمسي، والأشعة الكونية، والتقلبات الحرارية بين حرارة الشمس وظل الأرض، أدى إلى إضعاف البنية التحتية للأجهزة، خصوصاً الإلكترونية منها.
أبرز المشكلات التقنية التي ظهرت مؤخراً:
-
خلل في نظام تحديد الاتجاه (gyroscopes):
يمتلك هابل ستة جيروسكوبات تساعده في توجيه نفسه نحو أهدافه في الفضاء بدقة عالية. على مر السنوات، تعطل العديد منها، ولم يتبقَ حالياً سوى واحد أو اثنان يعملان بشكل غير مستقر. وهذا الخلل يحدّ من قدرة التلسكوب على المناورة واستهداف الأجسام السماوية، ويؤثر على جودة الصور والبيانات العلمية. -
شيخوخة البطاريات والأنظمة الكهربائية:
البطاريات المستخدمة في تخزين الطاقة الشمسية تتآكل مع الزمن. وقد بدأ أداء هذه البطاريات بالتراجع، مما يؤثر سلباً على إمدادات الطاقة التي يحتاجها التلسكوب لتشغيل معداته العلمية. -
تدهور الأنظمة الحرارية:
النظام الحراري مهم للغاية للحفاظ على درجة حرارة مناسبة لمكونات هابل. ومع مرور الوقت، تتعرض وحدات التحكم الحراري للضعف، مما قد يؤدي إلى فشل بعض الأجهزة الحساسة إذا انخفضت الحرارة أو ارتفعت عن الحد المسموح به. -
مشكلات برمجية وتنسيقية:
الأنظمة البرمجية التي تدير التلسكوب لم تُحدّث منذ سنوات طويلة، وبعضها لم يعد متوافقاً مع التقنيات الحديثة في مراكز التحكم الأرضي، مما يصعّب عمليات التحكم والصيانة الافتراضية.
التغير في المدار ونقص الارتفاع
من بين الأسباب المباشرة التي تدفع إلى اقتراب سقوط تلسكوب هابل هو التغير التدريجي في مداره حول الأرض. فقد أُطلق هابل إلى مدار منخفض حول الأرض على ارتفاع يقارب 547 كم، وكان الهدف هو إمكانية الوصول إليه عبر مكوكات الفضاء للصيانة.
ومع توقف برنامج مكوك الفضاء التابع لناسا في عام 2011، لم تعد هناك وسيلة بشرية مباشرة للوصول إلى التلسكوب لإجراء صيانة أو إعادة رفعه إلى مدار أعلى. وبسبب مقاومة الغلاف الجوي العلوي، ينخفض ارتفاع مدار هابل تدريجياً كل عام، حيث يفقد نحو 1 كم إلى 2 كم سنوياً.
ومع مرور الوقت، سيصل التلسكوب إلى طبقات أكثر كثافة من الغلاف الجوي، ما سيؤدي إلى تسارع عملية فقدان الارتفاع، وانجذاب التلسكوب نحو الأرض، إلى أن ينتهي الأمر بدخوله الغلاف الجوي واحتراقه جزئياً فيه، ما لم يتم تنفيذ عملية إعادة توجيه محكومة.
غياب بدائل فنية لإعادة الصيانة
منذ عام 2009، لم تعد هناك مهام صيانة مخصصة لهابل. ومع إحالة أسطول مكوكات الفضاء للتقاعد، وغياب مركبات فضائية قادرة على الصيانة البشرية في المدار المنخفض حتى الآن، لم يعد هناك حل عملي لتمديد عمر التلسكوب بشكل فعال. بعض المقترحات الحديثة تحدثت عن إمكانية استخدام مركبات آلية أو مركبات فضائية تجارية مثل “دراغون” أو “ستارشيب”، لإرسال وحدات صيانة أو رفع هابل إلى مدار أعلى. غير أن هذه المقترحات لا تزال غير مجدولة رسمياً، وتخضع لمتطلبات تمويلية وتكنولوجية معقدة.
البيان الرسمي لناسا حول مصير هابل
في أواخر عام 2022، أصدرت وكالة ناسا بياناً رسمياً يوضح أنها تدرس حالياً عدة خيارات للتعامل مع التدهور في أداء التلسكوب. أحد هذه الخيارات يتضمن التعاون مع شركة “سبيس إكس” لاحتمالية تنفيذ مهمة لإعادة رفع التلسكوب إلى مدار أعلى لإطالة عمره.
لكن في حال عدم توفر حلول عملية، فإن الوكالة قد تضطر إلى تنفيذ عملية “إنهاء محكوم” لمهمة التلسكوب، عبر التوجيه المراقب له نحو الغلاف الجوي، بحيث تتم عملية احتراقه جزئياً وتدميره بأمان فوق المحيط لتقليل احتمالات الخطر على الأرض.
مقارنة بين هابل وتلسكوب جيمس ويب
مع دخول تلسكوب “جيمس ويب” الفضائي إلى الخدمة في عام 2022، تساءل البعض عما إذا كان هذا التلسكوب سيحل محل هابل تماماً. ولكن في الواقع، فإن كلاً من التلسكوبين يمتلكان مهام علمية مختلفة، ويعملان ضمن أطياف مختلفة من الضوء.
-
هابل: يعمل بشكل رئيسي في الأطياف فوق البنفسجية والمرئية والقريبة من تحت الحمراء.
-
جيمس ويب: متخصص في الأطياف تحت الحمراء، ما يجعله قادراً على اختراق الغبار الكوني ودراسة مراحل مبكرة من نشأة النجوم والمجرات.
وعليه، فإن التلسكوبين مكملان لبعضهما البعض، وسقوط هابل سيترك فراغاً في نطاقات الرؤية التي لا يغطيها جيمس ويب.
السيناريو المتوقع لسقوط تلسكوب هابل
بحسب أحدث التقديرات، وفي حال عدم اتخاذ إجراءات تصحيحية، فإن تلسكوب هابل قد يسقط تلقائياً في الغلاف الجوي بين عامي 2030 و2040، حسب معدل تدهور مداره. وعند دخوله، فإن الجزء الأكبر منه سيحترق بسبب الاحتكاك الشديد مع الغلاف الجوي، لكن بعض الأجزاء المعدنية الثقيلة مثل العدسات أو البطاريات قد تصل إلى سطح الأرض، لذا تقوم ناسا بوضع خطط لتوجيهه نحو منطقة غير مأهولة فوق المحيط الهادئ، كما تم سابقاً مع محطة الفضاء الروسية “مير”.
الجدول التالي يوضح أهم محطات تدهور تلسكوب هابل:
| العام | الحدث |
|---|---|
| 1990 | إطلاق التلسكوب إلى المدار |
| 1993 | أول مهمة صيانة لإصلاح العيب البصري |
| 2009 | آخر مهمة صيانة بشرية (STS-125) |
| 2011 | تقاعد مكوكات الفضاء، وانتهاء القدرة على الصيانة |
| 2021 | فشل في واحد من أجهزة الكمبيوتر الاحتياطية |
| 2022 | إعلان ناسا دراسة خطة لإنهاء مهمة هابل أو رفعه إلى مدار أعلى |
| 2025-2030 | توقّع اقتراب هابل من طبقات الغلاف الجوي إذا لم تُتخذ إجراءات |
خاتمة علمية
تلسكوب هابل، على الرغم من اقتراب نهايته، سيبقى رمزاً علمياً وإنجازاً هندسياً منقطع النظير. فقد مثّل نموذجاً لتكامل الجهد الإنساني والعلمي والتقني في سبيل سبر أغوار الكون، وأثبت أن الطموح البشري في فهم ما وراء النجوم لا حدود له. ومع حلول نهاية مهمته، ستنتقل الشعلة إلى التلسكوبات الجديدة مثل “جيمس ويب” و”رومان”، إلا أن إرث هابل سيظل حيّاً في آلاف الدراسات والأبحاث التي أسس لها.
المراجع:
