سبب تسمية ليلة القدر

سبب تسمية ليلة القدر بهذا الاسم

تُعد ليلة القدر من أعظم الليالي في الإسلام، وهي ليلةٌ مباركةٌ أنزل الله فيها القرآن الكريم، وجعلها خيراً من ألف شهر. ولعِظم شأنها ومكانتها الفريدة بين الليالي، أولى العلماء والمفسرون عنايةً خاصةً بتفسير معناها وسبب تسميتها، والبحث في مدلولاتها اللغوية والشرعية والروحية، لما تحمله هذه الليلة من فضلٍ عظيم لا يُضاهى، وثوابٍ يتجاوز حدود الزمان والمكان.

المفهوم اللغوي لكلمة “القدر”

منطلق فهم تسمية “ليلة القدر” يبدأ من تحليل الكلمة لغوياً. فكلمة “القدر” في اللغة العربية تحمل معانٍ متعددة، وكلّ منها يفتح آفاقاً لفهم أعمق لأسباب هذه التسمية. ومن أبرز هذه المعاني:

• القدر بمعنى الشرف والمكانة: يقال “فلان ذو قدر عظيم”، أي صاحب شأن رفيع. وهذا المعنى يُستدل به على أن ليلة القدر سُمّيت كذلك لعِظم قدرها وعلوّ شأنها.

• القدر بمعنى التقدير والقضاء: يقال “قدّر الله الأمور تقديراً”، أي كتبها وأحكمها. وعلى هذا الأساس، فإن ليلة القدر هي ليلة يُقدّر فيها مصير الإنسان لسنةٍ كاملة، كما ورد في قوله تعالى: “فيها يُفرق كل أمر حكيم”.

• القدر بمعنى الضيق والتضييق: من مثل قوله تعالى: “فقدر عليه رزقه”. وقد فُسِّر ذلك بأن الأرض تضيق بالملائكة في تلك الليلة لكثرتهم حين ينزلون فيها، كما جاء في قوله تعالى: “تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر”.

أسباب التسمية في ضوء القرآن الكريم

تُذكر ليلة القدر في القرآن الكريم صراحةً في سورة كاملة باسمها، وهي سورة القدر:

“إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر”.

يُفهم من هذه الآيات أن التسمية تتعلق بعدة اعتبارات جوهرية:

• نزول القرآن فيها: وهو الحدث الأهم، إذ نزل فيها كلام الله عز وجل على خاتم أنبيائه محمد ﷺ، فكان ذلك بداية عهد جديد في التاريخ البشري. وقد قال تعالى في موضعٍ آخر: “إنا أنزلناه في ليلة مباركة”، وهي نفسها ليلة القدر، كما أجمعت كتب التفسير.

• عِظم الفضل والأجر فيها: قال تعالى: “خير من ألف شهر”، أي أن العمل فيها أفضل من عملٍ متواصلٍ في ألف شهر (ما يزيد عن 83 سنة).

• تنزُّل الملائكة فيها: وهو من علامات عظمتها وشرفها، حيث تنزل الملائكة وعلى رأسهم جبريل عليه السلام، وذلك لا يكون إلا في ليالٍ ذات قدرٍ رفيع.

تفسير العلماء لتسمية ليلة القدر

لقد أورد العلماء والمفسرون في كتبهم أقوالاً متعددة في سبب تسميتها “ليلة القدر”، وكل قولٍ منها يستند إلى مصدر لغوي أو شرعي معتبر، ويمكن تصنيف هذه الأقوال كما يلي:

ليلة القدر في الأحاديث النبوية

أكّد النبي ﷺ في أحاديث كثيرة فضل ليلة القدر، مما يعزّز سبب تسميتها بأنها ليلة ذات شأن وقدر. ومن هذه الأحاديث:

• عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبه” [رواه البخاري ومسلم].

• وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، أرأيتَ إن علمتُ أي ليلةٍ ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: “قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني” [رواه الترمذي].

هذه النصوص تدل على علوّ قدر هذه الليلة عند الله، وعلى أنها ليلة عفوٍ ورحمة ومغفرة، وأن الله يرفع فيها قدر عباده الصالحين.

التأمل الروحي في التسمية

لا تقتصر دلالة “ليلة القدر” على المعاني اللغوية أو الفقهية فحسب، بل تنفتح أمام المسلم آفاق تأملية روحية عميقة:

• ليلة تُبدَّل فيها الأقدار بالدعاء: فإن كان الدعاء في سائر الأيام مجابًا، فإن ليلة القدر تمثل ذروة هذه الاستجابة، حيث تُرفع فيها الأعمال ويُكتب فيها المصير.

• ليلة اختبار للقلب: هي ليلة يُختبر فيها صدق المؤمن، وتعلقه بربه، ومدى استعداده للوقوف بين يدي الله في جوف الليل حين ينام الناس.

• ليلة تتلاقى فيها السماء بالأرض: في مشهدٍ إيماني فريد، تنزل فيه الملائكة، وتُضاء الأرض بأنوار الطاعة والخشوع، ويشعر المؤمن بعظمة الوصل الإلهي.

لماذا اختصها الله باسم “القدر” دون غيره؟

في خضم الليالي، واختلاف الأيام، اختار الله هذه الليلة لتكون “ليلة القدر”، ولم يسمّها “ليلة النور” أو “ليلة القرآن” أو “ليلة الغفران”، بل اختار هذا الاسم لما يحمله من معاني شاملة ومركبة:

• لأنه يعبر عن التقدير الإلهي للأحداث، فكل أمرٍ يجري في الكون يُكتب في تلك الليلة.

• لأنه يعكس مقام الليلة ومنزلتها، إذ لا توجد ليلة في السنة تضاهيها في القدر.

• لأنه يرتبط بقدر الإنسان نفسه، فهذه الليلة قد تغيّر مساره، وتفتح له باباً جديداً في حياته.

بين التسمية والواقع: أثر ليلة القدر في الوجدان الإسلامي

أثّرت تسمية ليلة القدر على تشكيل وعي المسلمين بها. فهي ليست فقط ليلة مباركة، بل ليلة مصيرية في حياة الفرد والمجتمع. وقد انعكست هذه التسمية على:

• إحياء المسلمين لهذه الليلة بشكل خاص، حيث يُكثر فيها من الصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، وطلب العفو والصفح.

• حالة الترقب والتأمل في العشر الأواخر من رمضان، حيث يسعى المؤمن إلى إدراك هذه الليلة، لما فيها من مغفرة ورحمة وتقدير.

• إحياء سنة الاعتكاف في المساجد، والتفرغ التام للعبادة، وهو تجلٍ عملي لمكانة هذه الليلة وعلوّ قدرها.

تداخل الزمان بالقدر: العلاقة بين الزمن والاختيار الإلهي

تكشف تسمية “ليلة القدر” عن فهمٍ عميق لطبيعة الزمان في الفكر الإسلامي. فهي لحظة زمنية، لكنها ليست كغيرها من اللحظات:

• الزمن فيها مُضاعف: عملٌ بسيط يُجزى عليه المرء كأنه عمل ألف شهر.

• الزمن فيها محفوف بالقدر: كل لحظة فيها قد تكون سببًا لتغيير مصير إنسان.

• الزمن فيها محكوم بالاختيار الإلهي: فالله يختار من عباده من يغفر له، ومن يرفع درجته.

خلاصة علمية

ليلة القدر ليست مجرد حدث سنوي في رمضان، بل هي نقطة محورية في العقيدة الإسلامية، تُمثّل اجتماع الزمان بالقدر، والرحمة بالعدالة، والعمل بالأجر، والدعاء بالقضاء. وتسميتها بـ “ليلة القدر” جمعت بين:

• علو المكانة.

• شرف النزول.

• كثافة العبادة.

• دقة التقدير الإلهي.

وبذلك فإن الاسم ليس مجرد تسمية لغوية، بل هو انعكاس لحقيقة وجودية وروحية شاملة، تفرض على المؤمن أن يقف أمامها بخشوع وتأمل، وأن يسعى لإدراكها بما يليق بها من عبادة ووعي وإخلاص.

المراجع:

1. الطبري، تفسير جامع البيان في تأويل آي القرآن.

2. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم.