بماذا يحلم الرضيع؟
إنّ فكرة الأحلام لدى الرضيع تثير فضولاً عميقاً في عقول الأهل والعلماء على حد سواء، إذ تشكّل لحظة النوم عند الرضيع فسحة غامضة تُحاط بعدد كبير من الأسئلة العلمية والفلسفية. فبينما يبدو الرضيع وهو نائم وكأنه غارق في أحلام وردية، يتساءل الكثيرون عمّا يدور في دماغه خلال تلك اللحظات: هل يحلم؟ وإن كان يحلم، فبماذا يحلم؟ هل تتعلق أحلامه بالأصوات والأشخاص الذين يتفاعل معهم يومياً؟ أم أنها مجرّد أنماط عصبية لا ترتبط بوعي أو صور محددة؟ هذه التساؤلات تقودنا نحو استكشاف عالم معقد من العلم العصبي، والنفسي، والتنموي.
النوم عند الرضيع: مدخل إلى الأحلام
قبل الغوص في تفاصيل الأحلام، لا بدّ من فهم طبيعة النوم عند الرضع، الذي يختلف جذرياً عن نمط النوم عند البالغين. يقضي الطفل الرضيع ما بين 14 إلى 17 ساعة يومياً في النوم خلال الأشهر الأولى من حياته، وتكون هذه الساعات موزعة على فترات غير منتظمة خلال الليل والنهار. المدهش في الأمر أن الرضيع يمضي حوالي 50% من وقت نومه في مرحلة نوم تُعرف باسم “نوم حركة العين السريعة” (REM Sleep)، وهي المرحلة المرتبطة بالأحلام عند الإنسان البالغ.
في المقابل، البالغون يقضون فقط حوالي 20–25% من نومهم في هذه المرحلة. هذا التفاوت في النسب يثير تساؤلات حول أهمية مرحلة نوم حركة العين السريعة في النمو الدماغي والمعرفي للرضيع، ويطرح فرضيات بأنّها قد تكون مرتبطة ببناء الدماغ، وربما أيضاً بوجود شكل ما من الأحلام حتى في هذه السن المبكرة.
تطور الدماغ والقدرة على الحلم
يبدأ دماغ الطفل في التطور المعرفي والعاطفي منذ الأسابيع الأولى بعد الولادة. إلا أن مناطق الدماغ المسؤولة عن التخزين المعرفي، واللغة، والتجريد، مثل القشرة الجبهية الأمامية، لا تكون مكتملة النمو إلا في السنوات اللاحقة. هذا يعني أن أحلام الرضيع -إن وُجدت- لا يمكن أن تكون مماثلة لأحلام الطفل الأكبر أو الشخص البالغ، والتي تحتوي على قصص مركبة أو رموز نفسية معقدة.
يشير علماء الأعصاب إلى أن الأحلام تعتمد على “الذاكرة البصرية” و”الخبرة السابقة”، وهما أمران لا يمتلكهما الرضيع بشكل متكامل. فبينما يبدأ الرضيع بالتعرف على وجه أمه، وصوتها، ورائحة جسدها، إلا أنّ دماغه لا يُخزن صوراً أو مواقف طويلة المدى يمكن استرجاعها لاحقاً في الأحلام بالطريقة التي نعرفها. لهذا السبب، يُرجَّح أن تكون أحلام الرضيع –إذا صحت التسمية– عبارة عن نشاطات دماغية داخلية غير مفهومة، تتعلق بالحواس الأساسية: اللمس، والشم، والسمع.
هل يرى الرضيع صورًا في حلمه؟
إن قدرة الرضيع على الرؤية تتطور تدريجيًا منذ لحظة الولادة، إذ يبدأ الطفل برؤية الأشياء بشكل ضبابي في حدود 20 إلى 30 سنتيمترًا أمامه فقط. تدريجيًا، تتحسن رؤيته، ولكن في الشهور الأولى، لا يستطيع تمييز الألوان أو التفاصيل الدقيقة. وبالتالي، فإنّ ما قد يراه الرضيع خلال نومه (إن كان يرى) لا يتجاوز أطيافًا من الضوء، أو أشكالًا أولية جداً، وربما صورًا غير واضحة لأشخاص يعرفهم من الصوت أو الرائحة، مثل الأم أو الأب.
كما أن تطور العصب البصري واتصاله مع القشرة الدماغية المسؤولة عن التفسير البصري لا يكون كاملاً في الشهور الأولى، ما يُضعف فرضية أن تكون لدى الرضيع أحلاماً تتضمن صوراً متكاملة أو مناظر خيالية.
الحلم بوصفه عملية بيولوجية للنمو
يرى بعض الباحثين أن الأحلام عند الرضع قد تكون جزءاً من “برنامج بيولوجي” لنمو الدماغ، أي أنها لا تتطلب وعياً أو محتوى تصويرياً واضحاً. فدماغ الرضيع، خلال مرحلة النوم العميق ونوم حركة العين السريعة، يكون في حالة نشاط عالٍ يوازي نشاط الدماغ اليقظ، ويُعتقد أن هذا النشاط يساهم في تطوير الروابط العصبية، وتثبيت المهارات الحسية التي يكتسبها من محيطه.
بهذا المعنى، فإن الأحلام عند الرضيع لا تُشبه الأحلام كما نعرفها، بل هي آلية من آليات الدماغ “لتجريب” المعلومات الجديدة، وإعادة ترتيبها، وتدريب الدماغ على معالجتها. يمكن تشبيه الأمر بمحاكاة داخلية لاواعية، تشبه إلى حد بعيد تدريب جهاز جديد على استقبال الإشارات، وليس بعملية سردية مليئة بالصور والمشاهد.
هل يمكن للرضيع أن يشعر بالعواطف في الحلم؟
الرضع يعبرون عن مشاعرهم بطرق بدائية جداً في الأسابيع الأولى: البكاء عند الانزعاج، والابتسامة العفوية، والاسترخاء عند سماع صوت الأم. لكن لا يمكن الجزم بأنّ لديهم وعياً بالعواطف أو قدرة على فهم ما يشعرون به. مع ذلك، هناك نظريات في علم النفس التطوري تفترض أن الشعور بالراحة أو التوتر قد يظهر في مرحلة النوم أيضاً، وهذا ما يُفسر ارتجاف بعض الرضع أثناء النوم، أو ابتسامتهم أحياناً دون سبب واضح، فيما يُعرف بـ”الابتسامة أثناء النوم”.
تُعد هذه الابتسامات –التي تُعرف باسم “الابتسامات الانعكاسية”– من المؤشرات التي اعتمدها البعض على أنها دليل على أحلام إيجابية. لكن علمياً، لا يمكن تأكيد هذه الفرضية، لأن الابتسامات الانعكاسية غالباً ما تكون نتيجة نشاط عصبي انعكاسي وليس مشاعر واعية.
الجدول التالي يوضح الفروقات بين نوم الرضيع ونوم البالغ:
| المعيار | الرضيع (0-12 شهرًا) | البالغ |
|---|---|---|
| عدد ساعات النوم اليومية | 14 – 17 ساعة | 7 – 9 ساعات |
| نسبة نوم حركة العين السريعة | 50% | 20 – 25% |
| تطور القشرة الدماغية | غير مكتملة | مكتملة |
| مستوى الوعي أثناء النوم | منخفض جدًا | مرتفع نسبيًا |
| محتوى الحلم المتوقع | نشاطات حسية أولية | قصص، مشاهد، رموز |
| القدرة على التذكر بعد الاستيقاظ | معدومة | موجودة غالبًا |
هل يمكن تفسير تعابير وجه الرضيع خلال النوم على أنها دليل على الحلم؟
يشهد الآباء والأمهات في كثير من الأحيان تقلبات في تعابير وجه الرضيع أثناء نومه: عبوس، ابتسامة، حركات في الجفون، وحتى حركات بسيطة في الأطراف. ورغم أنّ هذه العلامات توحي بأن الرضيع يعيش “تجربة داخلية”، إلا أن علماء الأعصاب لا يعتبرونها دليلاً حاسماً على الأحلام، بل يرونها ضمن النشاط العضلي الطبيعي خلال مرحلة نوم حركة العين السريعة. هذا النشاط قد يكون مجرد تنظيم عصبي للحركة والانفعالات المستقبلية.
نظرية الأحلام كتنمية إدراكية
تشير بعض النظريات إلى أن الأحلام، حتى عند البالغين، ليست مجرد سرد عقلي، بل وسيلة لتطوير وظائف إدراكية. إذا قبلنا بهذا المنظور، فإن نوم الرضيع المليء بنشاط الدماغ (خصوصًا في مرحلة REM) قد يكون وسيلة بيولوجية لتعزيز قدراته الحسية والإدراكية، وتحفيز الروابط العصبية الجديدة. وهنا يصبح “الحلم” ليس قصة تُحكى، بل عملية بناء معرفي داخلي.
ماذا تقول الفلسفة حول أحلام الرضع؟
الفلاسفة بدورهم لم يغفلوا هذا الموضوع، فقد طرح الفيلسوف الفرنسي “رينيه ديكارت” في كتاباته أسئلة حول الوعي والنفس حتى قبل أن يتطور علم الأعصاب، وكان يرى أن الإنسان يولد بذهن فارغ لكنه قابل للامتلاء بالتجربة. أما في القرن العشرين، فقد نظر علماء النفس مثل جان بياجيه إلى عقل الرضيع على أنه كائن ينمو من الحس إلى الفكر، ما يجعل من فرضية الأحلام عنده ضرباً من التجربة الحسية البسيطة، وليس سردًا عقليًا معقدًا.
تأثير الأصوات والأضواء على الأحلام عند الرضع
تشير بعض الدراسات إلى أن الأصوات التي يتعرض لها الرضيع أثناء النوم قد تؤثر على نشاط دماغه، وتُفعّل مناطق معينة فيه، حتى وإن لم يكن مدركًا لها بوعي. فمثلاً، صوت الأم، أو موسيقى هادئة، أو ضوء خافت، قد يتفاعل معه دماغ الرضيع بشكل غير واعٍ، مما يُعتبر في بعض الأوساط العلمية أحد مظاهر “الاستجابة الداخلية”، والتي قد تكون جزءًا مما يُشبه الحلم.
متى تبدأ الأحلام الحقيقية عند الطفل؟
وفقًا لعلماء النفس التنموي، تبدأ الأحلام المعقدة في الظهور عند الأطفال في عمر السنتين إلى الثلاث سنوات، إذ يكون لديهم آنذاك مخزون لغوي وخبرة حياتية تُترجم إلى مشاهد في الحلم. يُصبح الطفل حينها قادرًا على التحدث عن حلمه بعد الاستيقاظ، ويبدأ بإدراك أن ما رآه كان “غير واقعي”، وهي خطوة حاسمة في تطور الوعي الذاتي.
أما في الشهور الأولى من حياة الرضيع، فإنّ النشاطات العصبية المرتبطة بالنوم لا يمكن اعتبارها “أحلامًا” بالمعنى المتعارف عليه، بل هي تمهيد عصبي لهذه الظاهرة التي ستظهر لاحقًا.
المراجع:
-
Heraghty, J.L., et al. (2008). Sleep physiology and the development of infant sleep patterns. Archives of Disease in Childhood.
-
Hobson, J.A. (2002). Dreaming: An Introduction to the Science of Sleep. Oxford University Press.
