أنت لا تعمل في مجال بناء الجسور: بين المجاز والواقع في توصيف الأدوار الإنسانية والاجتماعية
في الحياة اليومية، تتكرر عبارات تحمل شحنة رمزية ثقيلة دون أن ننتبه إلى أبعادها اللغوية والثقافية والاجتماعية. من بين هذه العبارات الشائعة: “أنت لا تعمل في مجال بناء الجسور”. عبارة قد تبدو بسيطة أو ساخرة للوهلة الأولى، لكنها تنطوي على مضامين رمزية متعددة تتجاوز معناها الحرفي. فهي ليست مجرد إشارة إلى قطاع الهندسة المدنية أو مشاريع البنية التحتية، بل تمثل استعارة تحمل بُعدًا عميقًا يتعلق بالتواصل، والحلول، والوساطة، والانخراط في معالجة الخلافات وإعادة ترميم العلاقات.
إن “بناء الجسور” كمفهوم مجازي، يُستخدم للدلالة على الجهود التي تُبذل لربط بين الأفراد أو الجماعات، لتقريب وجهات النظر، ولإصلاح ما انكسر من علاقات أو تفاهمات. وحين يُقال لأحدهم: “أنت لا تعمل في مجال بناء الجسور”، فالأمر لا يتعلق بوظيفته المهنية فعليًا، بل يُراد به التذكير بأنه ليس مضطرًا دائمًا أن يتحمل أعباء المصالحة أو الإصلاح أو التنازل في سبيل الحفاظ على العلاقة مع الآخرين.
الجسر في الذاكرة الثقافية والرمزية
الجسر ليس مجرد بناء معماري، بل رمز متجذر في المخيلة البشرية منذ القدم. في الميثولوجيا، تظهر الجسور كوسيلة للعبور بين العوالم، بين الحياة والموت، بين الأرض والسماء، بين الخير والشر. وفي الأدب والفن، يتم توظيف الجسر كتعبير عن الاتصال أو الفصل، عن التقدم أو الهروب، عن الفقد أو اللقاء.
في الحضارات القديمة، كانت الجسور تُبنى فوق الأنهار الفاصلة بين المدن كرمز للسيطرة والتواصل. أما في الرمزية الحديثة، أصبح بناء الجسور يُشير إلى كل محاولة لفهم الآخر أو التعايش مع المختلف أو احتواء النزاعات. بالتالي، فإن من يختار عدم “بناء الجسور” لا يعني بالضرورة الرفض المطلق للتفاهم، بل قد يشير إلى وعيه بحدوده النفسية أو اختياره الحفاظ على ذاته وعدم الانخراط في علاقات مُنهِكة لا تخدم سوى الطرف الآخر.
الاستنزاف العاطفي ودور الإنسان كـ”باني جُسور”
غالبًا ما يُتوقع من الأشخاص الأكثر وعيًا أو تعاطفًا أو ذكاءً عاطفيًا أن يكونوا هم الطرف المبادر إلى إصلاح العلاقات، وأن يُمارسوا دور “بناة الجسور” في محيطهم، سواء داخل الأسرة أو في أماكن العمل أو بين الأصدقاء. لكن هذه الأدوار، حين تُؤدى بصورة متكررة دون مقابل عادل أو دون وعي بالحدود، قد تُفضي إلى حالة من الاستنزاف العاطفي الشديد.
الإنسان الذي يُطلب منه باستمرار أن يعتذر حتى إن لم يُخطئ، أو أن يُبادر بالحديث مع من خاصمه، أو أن يشرح نفسه طوال الوقت تفاديًا لسوء الفهم، هو شخص يتحمل عبءًا غير مرئي قد يؤدي إلى اختلال توازنه النفسي والشعوري. إن افتراض أن “الطيبين” أو “الواعين” أو “الناجحين اجتماعيًا” هم المسؤولون دائمًا عن إصلاح ما يفسده الآخرون، يعكس ثقافة مشوهة تُكافئ اللا مبالاة وتُعاقب الحساسية الإنسانية.
الحدود النفسية: عندما يكون عدم بناء الجسر ضرورة
في كثير من الأحيان، يُعد رفض بناء جسرٍ جديد خيارًا واعيًا ومشروعًا. فليست كل العلاقات تستحق الإصلاح، وليست كل الخلافات تتطلب وساطة، وليس كل شخص مستعد أو قادر على إعادة مد الجسور التي تهدمت. أحيانًا، يكون هدم الجسر أو الامتناع عن بنائه حمايةً للنفس، وصونًا للكرامة، ورفضًا لتكرار الأذى.
الحياة ليست دائمًا مسرحًا للمصالحة. توجد لحظات يجب فيها اختيار الانفصال بدلاً من التعايش القسري، والتباعد بدلاً من التقارب القسري. من حق الإنسان أن يرفض لعب دور “المُصلِح” أو “الوسيط” أو “الطرف المتفهم”، خصوصًا عندما يكون في محيط يستهلك طاقته دون أن يُقدّم له دعمًا أو احترامًا مقابلًا.
البنية النفسية والاجتماعية لمفهوم “رفض الجسر”
السياقات التي تُطلق فيها عبارة “أنت لا تعمل في مجال بناء الجسور” تكشف عن أبعاد اجتماعية عميقة تتعلق بفهم الناس لدور الفرد داخل الجماعة. في بعض البيئات الثقافية، يُتوقع من الفرد أن يضحي كثيرًا من أجل الجماعة، وأن يقدم دائمًا مصلحة الآخرين على حساب ذاته، في حين تُدان مواقفه إن بدت أنانية أو انعزالية.
لكن هذا التوقع الجماعي قد يتعارض مع الحق الفردي في السلام النفسي، ويجعل من الضروري إعادة تقييم الأدوار الاجتماعية المفروضة. لا يمكن تحميل شخص واحد مسؤولية إصلاح جميع العلاقات، أو تهدئة جميع الخلافات، خصوصًا عندما يكون هو نفسه طرفًا مجروحًا أو منهكًا.
“أنت لا تعمل في مجال بناء الجسور”: دفاع لا تهكم
حين يُرد بهذه العبارة على من يرفض مصالحة، أو يُنهي علاقة سامة، أو يقرر الانسحاب من صراع لا جدوى منه، فإن الجواب يجب أن يُفهم كإعلان للحدود، وليس كاستهزاء أو تنصل من المسؤولية الاجتماعية. إنه إعلان ناضج عن التمييز بين الواجب الإنساني والعبء العاطفي غير المبرر.
فبناء الجسور عملية معقدة لا تتم فقط بالنيات الطيبة أو بالعاطفة، بل تحتاج إلى استعداد متبادل، واحترام، واعتراف بالأخطاء من جميع الأطراف. عندما يغيب هذا الأساس، يصبح بناء الجسر ضربًا من العبث، بل وقد يؤدي إلى المزيد من الانهيارات النفسية.
دور المؤسسات في ترسيخ ثقافة “بناء الجسور” الصحية
من المهم التنويه إلى أن ثقافة بناء الجسور لا ينبغي أن تُفهم كعبء فردي. يجب أن تكون هناك مؤسسات اجتماعية وتعليمية وثقافية تُعزز مبدأ الحوار الصحي، وتُعلم مهارات التواصل والتفاوض منذ الصغر، وتُدرّب الأفراد على إدارة الخلافات دون عنف أو انسحاب مَرَضي.
لكن حين تغيب هذه التربية، يصبح الضغط على الأفراد للعب دور المصلحين عبثيًا وغير عادل. فالمؤسسات الأسرية، والمدارس، وأماكن العمل، والإعلام، كلها مسؤولة عن خلق مناخ يسمح للناس بالتعبير عن أنفسهم دون خوف من الإدانة، ويمنحهم حق الانسحاب دون اتهام بالأنانية أو التكبر.
منظور التحليل النفسي للامتناع عن بناء الجسور
من زاوية التحليل النفسي، فإن الامتناع عن “بناء الجسر” قد لا يكون دائمًا علامة على القوة أو الوعي، بل في بعض الحالات يُمكن أن يُعبّر عن تجارب ماضية مؤلمة، أو آليات دفاعية نشأت من تراكمات الصدمات. بعض الأفراد يفضلون العزلة أو قطع العلاقات لأنهم تعرضوا لخذلان مستمر أو لأنهم تعلموا أن الانسحاب هو السبيل الوحيد لتجنب الأذى.
لكن في الوقت ذاته، هذا الانسحاب قد يكون فعلًا واعيًا من أجل الشفاء. التحليل النفسي لا يُدين من لا يبني الجسور، بل يُحاول فهم الأسباب العميقة خلف قراراته. هل هو تجنب؟ أم نضج؟ أم انتقام هادئ؟ أم ببساطة، إنه التعب؟
التمييز بين الواجب والمسؤولية العاطفية
ثمة فرق كبير بين ما هو واجب أخلاقي وما هو عبء عاطفي. بناء الجسور يصبح واجبًا أخلاقيًا حين تكون العلاقة متوازنة، قائمة على الاحترام والصدق، وتُظهر الأطراف استعدادًا حقيقيًا للحل. أما حين يغيب هذا التوازن، يتحول بناء الجسر إلى مسؤولية عاطفية مستنزِفة.
هذا التمييز ضروري حتى لا تُصبح العبارات ذات النوايا الحسنة أدوات للضغط النفسي. ليس كل شخص مطالب بأن يُصلح ما كُسر، وليس كل أحد ملزم بأن يتحمّل نتائج تفاعلات لم يشارك في إفسادها.
خاتمة
“أنت لا تعمل في مجال بناء الجسور” ليست مجرد تبرير، بل تعبير عن وعي بالحدود النفسية، وتحليل عميق للدور الذي يُسقطه المجتمع على الأفراد، أحيانًا دون رحمة. ليست كل العلاقات تستحق جسورًا جديدة، ولا كل الصراعات تتطلب وسطاء دائمين. من حق الإنسان أن يختار راحته النفسية، أن يعتزل العلاقات المؤذية، وأن يُعلن انسحابه دون أن يُدان على ذلك.
في عالم يتطلب منا كثيرًا من الجهد لنعيش بسلام مع أنفسنا، فإن الامتناع عن “بناء الجسر” قد يكون في بعض الأحيان أقوى تعبير عن الحب للذات.
المراجع:
-
Brown, Brené. The Power of Vulnerability. Penguin Publishing, 2015.
-
hooks, bell. All About Love: New Visions. William Morrow Paperbacks, 2001.
