تفسير آية نساؤكم حرث لكم

تفسير آية (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم):

**الآية الكريمة:

**

قوله تعالى في سورة البقرة: “نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ” [البقرة: 223].

تعتبر هذه الآية الكريمة من الآيات التي حظيت بتفسير ودراسة واسعة في العديد من كتب التفاسير، حيث تحتوي على دلالات كبيرة تتعلق بالعلاقة الزوجية في الإسلام. وردت هذه الآية في سياق آيات الأحكام التي تتحدث عن حقوق وواجبات الأزواج والزوجات. وفيما يلي، سنتناول تفسير الآية الكريمة بشكل مفصل مع تسليط الضوء على معاني الكلمات واستخلاص الدروس المستفادة منها.

1. المعنى اللغوي للكلمات:

قبل التفسير التفصيلي، من الضروري أن نبدأ بتوضيح المعاني اللغوية لبعض الكلمات في الآية لنتفهم بشكل أعمق دلالاتها:

• الحرث: في اللغة العربية، “الحرث” هو الأرض التي تُزرع. وفي السياق الزراعي، يُستخدم مصطلح “الحرث” للدلالة على المكان الذي تُسقى فيه الأرض وتنمو فيه الزرع. والمعنى المجازي هنا يشير إلى العلاقة الزوجية، حيث تُزرع بذور النسل وتنمو الحياة.

• فأتوا حرثكم: الأمر هنا ليس للزراعة الحرفية، وإنما هو دعوة من الله تعالى للزوج بأن يأتي زوجته لممارسة العلاقة الزوجية. وحينما يقال “فأتوا حرثكم”، يُقصد به “اتبعوا أوامر الله في الحياة الزوجية”.

• أنى شئتم: تعني “من أي مكان أو موضع شئتم”. وهذه العبارة تدل على الإباحة في كيفية إقامة العلاقة الزوجية داخل حدود الشرع.

2. السياق الزمني والتاريخي للآية:

نزلت هذه الآية في فترة كان فيها العرب يتبعون بعض العادات التي تقيّد العلاقات الزوجية، فقد كانوا يتبعون بعض الممارسات الخاطئة مثل منع الزوج من التفاعل مع زوجته في أوقات معينة أو تحديد أماكن معينة لممارسة العلاقة. وقد جاء الإسلام ليضع القواعد التي تضمن الاستقرار النفسي والاجتماعي في إطار العلاقة الزوجية، ويؤكد أن الزوجين لهما الحرية في ممارسة حياتهما الزوجية بما يضمن لهما الراحة النفسية ويحقق لهما المودة والرحمة.

3. تفسير “نساؤكم حرث لكم”

تبدأ الآية بتأكيد العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة بأنها علاقة زراعية ذات أبعاد روحانية ونفسية واجتماعية. فيقول الله سبحانه وتعالى: “نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ”، بمعنى أن النساء جزء أساسي من حياة الرجل، وهنّ مصدر للزراعة والخصوبة. وإذا كان الحرث يعبر عن العناية بالأرض من أجل الزرع والإنتاج، فالأمر هنا يشير إلى أن النساء هنّ مصدر الحياة، والحرث هنا مجازي يتعلق بالمستقبل والأبناء.

الزوجة في الإسلام ليست مجرد شخص يُعاشَر من أجل المتعة فقط، بل هي شريكة في بناء الحياة الزوجية، وتحمل دورًا مهمًا في استمرارية الحياة وتحقيق مبدأ الخلافة في الأرض من خلال الإنجاب. لذلك، فإن التعامل معها يجب أن يكون ضمن مبدأ الاحترام والرغبة في الخير المشترك.

4. “فأتوا حرثكم أنى شئتم”

بعد أن وصف الله تعالى الزوجة بأنها حرث للرجل، جاء التوجيه الإلهي: “فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ”.

هذه العبارة تدل على الإباحة الشرعية للرجل في التعامل مع زوجته في أي وقت ومن أي جهة كانت، طالما أن ذلك يتم في إطار العلاقة الشرعية. الملاحظة المهمة هنا هي أن الله تعالى أباح للرجل أن يكون مع زوجته أينما كان في إطار من الاحترام، ولكن لا ينبغي تجاوز حدود الله، مثل الامتناع عن المحظورات مثل الجماع في فترة الحيض أو أثناء النفاس.

وتُظهر هذه الإباحة أيضًا توازنًا في العلاقات الزوجية، إذ يُقصد بها منح الزوج حرية الوصول إلى زوجته دون قيود غير مشروعة، مع مراعاة الحفاظ على الحقوق المشتركة بين الطرفين.

5. “وقدّموا لأنفسكم واتقوا الله”

تضيف الآية الكريمة بعدًا دينيًا مهمًا بتوجيه الزوجين إلى التفكير في مصلحة علاقتهما. فتقول الآية: “وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّـهَ”، بمعنى أنه لا يجب أن يتوقف الدور عند مجرد الجماع، بل على الزوجين أن يعملا جاهدين لتحقيق التوازن النفسي والمعنوي في حياتهما الزوجية. يجب على الرجل والمرأة أن يتعاونا في تلبية احتياجات كل منهما بما لا يضر بهما في الدنيا أو الآخرة، مع اتقاء الله في معاملاتهما.

“وقدّموا لأنفسكم” يعني أن كل طرف في العلاقة يجب أن يضع في اعتباره النية الطيبة في كل ما يفعل، سواء كان في الجماع أو في غيره، لأن العلاقة الزوجية يجب أن تقوم على حسن النية والنية الصافية بين الطرفين.

6. الدروس المستفادة من الآية:

من هذه الآية الكريمة نستخلص العديد من الدروس القيمة التي يمكن تطبيقها في حياتنا اليومية:

1. حرية الزوجين في العلاقة الزوجية: الإسلام لا يقيّد العلاقات الزوجية إلا بما يضر الطرفين أو يضر بالمجتمع. لذا فإن هذه الآية تبيح للزوجين أن يعيشا حياتهما الزوجية كما يشاءان بشرط عدم تجاوز حدود الله.

2. أهمية الاحترام المتبادل: الزواج ليس مجرد علاقة جسدية، بل هو علاقة تقوم على الاحترام المتبادل والرحمة. فإذا فهم الزوجان هذا المعنى، سيكون لديهما قدرة على بناء أسرة متماسكة.

3. الحفاظ على القيم الأخلاقية: على الزوجين أن يتعاملوا مع بعضهما البعض بصدق ووفاء، وأن يتجنبوا أي سلوك يمكن أن يضر بالعلاقة أو يضعف الثقة بينهما.

4. حماية حقوق المرأة: في هذه الآية، نجد أن الإسلام قد حفظ حقوق المرأة وحقوق الرجل في العلاقة الزوجية، مشيرًا إلى ضرورة احترام رغبات الطرفين وتحقيق مصلحتهما المشتركة.

7. تأثير هذه الآية في حياة المسلم

تعتبر هذه الآية من الآيات التي ترسخ مفاهيم الأسرة الإسلامية في إطار من الرفق والرحمة. فهي توضح العلاقة بين الزوجين كعلاقة شراكة وتكامل، وتمنحهما الحرية في حياتهما الخاصة، مع التأكيد على ضرورة التقوى والتفاهم بينهما. وقد شهد المجتمع الإسلامي تطورًا كبيرًا في فهم هذه الآية، حيث أصبحت تمثل نموذجًا للعلاقات الزوجية القائمة على الاحترام المتبادل.

من خلال هذه الآية، نتعلم أن الزواج هو أساس لبناء أسرة سليمة، وأن العلاقات الزوجية ينبغي أن تكون قائمة على القيم الإسلامية التي تحترم حقوق كل طرف وتؤمن أن كلا الزوجين له حق وواجب في الحياة المشتركة.

خاتمة:

تعتبر هذه الآية بمثابة توجيه إلهي يوضح العلاقة بين الزوجين بما يتماشى مع طبيعة الحياة البشرية واحتياجات الإنسان. الإسلام لا يرى العلاقة الزوجية على أنها مجرد حاجة جسدية بل جزء من بناء المجتمع المسلم القوي الذي يقوم على المودة والرحمة.