خروج الروح من الجسد: رحلة الغيب في ضوء الوحي والعلم
إن لحظة خروج الروح من الجسد تُعد من أكثر اللحظات رهبةً وغموضاً في حياة الإنسان، وهي نقطة التحول من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ومن الحياة الدنيا إلى الحياة البرزخية. وقد شكّل هذا الحدث عبر العصور محوراً لتأملات فكرية، وموضوعاً مركزياً في الأديان والفلسفات والموروثات الثقافية، لما يحمله من دلالات عميقة عن المصير والخلود، والانتقال من حالة إلى أخرى في الوجود الإنساني. ويتفق العلماء والأطباء على كون الموت لحظة فاصلة لتوقف النبض والدماغ، بينما ينفرد الوحي الإلهي في القرآن الكريم والسنّة النبوية بوصف أدق لجوانبها الغيبية، خاصةً ما يتعلق بخروج الروح وما يرافقه من أحداث.
في هذا المقال، يتم التعمق في بيان كيفية خروج الروح من الجسد في ضوء المفاهيم الإسلامية، مع الإشارة إلى ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، بالإضافة إلى رصد بعض التصورات التي تحدثت عنها الفلسفة والعلوم الحديثة دون الخروج عن أطر النصوص الشرعية.
المفهوم القرآني والنبوي لخروج الروح
يصف القرآن الكريم لحظة خروج الروح باعتبارها عملية تجري بأمر الله وتحت إشراف مباشر من ملائكته، حيث يقول الله تعالى:
﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر: 42]،
وقال أيضاً: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة: 11].
من خلال هاتين الآيتين وغيرهما، يتضح أن عملية خروج الروح تتم بإذن من الله، وينفذها ملك الموت الموكّل بهذه المهمة، وهو عزرائيل عليه السلام، يعاونه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب بحسب حال الميت.
وفي الحديث النبوي الشريف، يُبيّن النبي محمد ﷺ هذا الحدث بالتفصيل، فقد ورد عن البراء بن عازب رضي الله عنه حديث طويل رواه الإمام أحمد وغيره، يصف فيه كيف تخرج روح المؤمن وكيف تخرج روح الكافر، ويتضح فيه التباين الكبير بين الحالتين من حيث السهولة أو الصعوبة، الاستبشار أو الجزع، الإكرام أو الإهانة.
مراحل خروج الروح من الجسد
خروج الروح من الجسد لا يكون دفعة واحدة، وإنما يمر بعدة مراحل متتابعة، وقد اختلف العلماء في تفسير التفاصيل، إلا أن ما ورد في الأحاديث النبوية يشير إلى تصور واضح للمراحل الأساسية التي يمر بها الإنسان عند الموت:
1. مرحلة الاحتضار
وهي بداية انفصال الروح عن الجسد، حيث يشعر الإنسان بتغيرات كبيرة في الوعي والإدراك، وتبدأ علامات الموت في الظهور: كبرود الأطراف، وتثاقل الجسد، وضيق النفس، وزيغ البصر. قال النبي ﷺ:
“إن الروح إذا قبض تبعه البصر” [رواه مسلم].
ويشاهد الإنسان في هذه اللحظة ما لا يراه الأحياء، فيبدأ برؤية الملائكة الذين يأتونه على هيئة الرحمة أو العذاب، ويبدأ ما يسمى بـ”سكرات الموت”، وهي حالة من الألم والتجاذب بين الروح والجسد. وقد دعا النبي ﷺ بقوله:
“اللهم أعني على سكرات الموت” [رواه الترمذي].
2. قدوم ملَك الموت
في هذه اللحظة المصيرية، يأتي ملك الموت إلى العبد بأمر من الله، ومعه أعوانه من الملائكة، فيقعدون عند رأسه، ويخاطبونه بألفاظ تتناسب مع حاله:
– فإن كان مؤمناً، يُقال له:
“يا أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان”
– وإن كان كافراً أو فاجراً، يُقال له:
“يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب”
3. انتزاع الروح من الجسد
تبدأ الروح بالخروج من الجسد، ويكون ذلك على درجات:
-
خروج روح المؤمن:
يخرج الروح بسهولة ولطافة كما يُصبّ الماء من فم القربة، فيجد راحة غريبة لم يعهدها، ويرافق ذلك رائحة طيبة، وتُوضع الروح في كفن من الجنة، وتُصعد بها الملائكة إلى السماء حيث يُستقبل بالتكريم حتى يصل إلى السماء السابعة، ثم يُعاد إلى القبر في البرزخ. -
خروج روح الكافر أو الفاجر:
تُنتزع روحه بشدة وقوة كما يُنزع السفود من الصوف المبلول، ويصاحب ذلك آلام مهولة، وتُخرج منه رائحة كريهة، ويُلف بكفن من النار، وتُغلق أمامه أبواب السماء، ويُطرح إلى الأرض ويُعاد إلى القبر.
الفارق بين روح المؤمن وروح الكافر عند الخروج
تتجلى الرحمة الإلهية بالمؤمن في تلك اللحظة، حيث يسهل خروج الروح وتتلقاها الملائكة بطيب الكلم، أما الكافر فيعاني من صعوبات عظيمة تنعكس على قسمات وجهه وجسده. وقد ورد في الحديث:
“إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، أقبلت إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه…”
“وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، نزلت إليه ملائكة سود الوجوه…” [رواه أحمد].
مظاهر سكرات الموت
سكرات الموت مرحلة يشعر فيها الإنسان بالانتقال الحقيقي من عالم الدنيا إلى ما بعده، ويعاني فيها المرء من ألم ليس كمثله ألم. وقد أكد النبي ﷺ على شدتها حتى بالنسبة للأنبياء، حيث رُوي أن النبي ﷺ كان يقول في مرض موته:
“لا إله إلا الله، إن للموت سكرات” [رواه البخاري].
سكرات الموت هي لحظة تصفية نهائية بين النفس والجسد، حيث تبدأ الحياة الفيزيائية بالانهيار ويبدأ الإدراك بالتحول، فيرى الإنسان مقعده في الجنة أو النار كما جاء في الأحاديث.
الفرق بين الموت الطبيعي والموت الفجائي
يختلف خروج الروح من الجسد في حال الموت الطبيعي عن الموت الفجائي. ففي الحالات الطبيعية، تمر الروح بالمراحل تدريجياً، بينما في الحالات الفجائية كالحوادث أو السكتات، فإن بعض العلماء رجحوا أن خروج الروح يتم بسرعة ولكن ليس بالضرورة سهولة، لأن ألم الروح لا يتوقف على طول الوقت بل على درجة الاستعداد الإيماني لدى الإنسان.
خروج الروح عند النوم
يشير القرآن الكريم إلى نوع آخر من خروج الروح المؤقت عند النوم، حيث يقول:
﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ [الزمر: 42].
وهذا خروج جزئي مؤقت، حيث ترتفع الروح عن الجسد دون انقطاع الحياة البيولوجية، وتُعاد الروح مرة أخرى عند الاستيقاظ، في حين أن الروح التي لا تُعاد فهي لأصحاب الموت الحقيقي.
الجدول التالي يوضح مقارنة بين خروج روح المؤمن وروح الكافر:
| المرحلة | روح المؤمن | روح الكافر |
|---|---|---|
| استقبال الملائكة | بوجوه بيضاء، وكفن من الجنة | بوجوه سوداء، وكفن من النار |
| طريقة الخروج | كالماء يسيل من القربة | كالسفود يُنزع من صوف مبتل |
| الرائحة | طيبة تفوح إلى السماء | نتنة تُغلق منها أبواب السماء |
| التعامل السماوي | يُفتح له أبواب السماء | تُغلق دونه، ويُطرح إلى الأرض |
| المعاملة في القبر | يُفسح له مد بصره ويُفرش من الجنة | يُضيق عليه القبر ويُفتح له باب من النار |
الرؤية الفلسفية والعلمية الحديثة
رغم أن مفاهيم خروج الروح ليست ضمن اختصاص العلم التجريبي الذي يعتمد على الرؤية والملاحظة، إلا أن بعض الظواهر كـ”تجارب الاقتراب من الموت” (Near-Death Experiences) قد دفعت بعض العلماء والمفكرين لطرح تساؤلات عن حقيقة وعي ما بعد الموت. ورغم اختلاف التفسيرات العلمية لها، فإنها تؤكد وجود حالات إدراك مختلفة وقت الموت، إلا أن الروح بمفهومها الغيبي لا يمكن قياسها أو إثباتها علمياً، بل تبقى من خصائص الماورائيات.
المصادر والمراجع
-
القرآن الكريم.
-
“مسند الإمام أحمد” – رواية حديث البراء بن عازب عن النبي ﷺ في وصف خروج الروح.
