خديجة بن قنة: مسيرة إعلامية جزائرية بين المصداقية والتأثير العربي
تُعد خديجة بن قنة واحدة من أبرز الشخصيات الإعلامية في العالم العربي، ومن الأسماء الراسخة التي ارتبطت بالإعلام الجاد والمهنية العالية. على مدار أكثر من عقدين من الزمن، رسخت هذه الإعلامية الجزائرية مكانتها في الوعي الجماهيري العربي، ليس فقط بصوتها الهادئ والواثق، ولكن أيضًا بقدرتها على إدارة الحوارات الصعبة، والتعامل مع القضايا الحساسة، وتقديم تغطيات إخبارية ترتقي إلى أعلى درجات الاحتراف. هذا المقال يتناول مسيرة خديجة بن قنة منذ نشأتها الأولى، مرورًا بتجربتها مع كبرى القنوات العربية والدولية، ووصولًا إلى إسهاماتها في الدفاع عن القضايا الإنسانية والعربية، مع قراءة معمّقة في تأثيرها المهني والثقافي في المشهد الإعلامي العربي.
النشأة والتعليم: الجذور التي شكلت الوعي
ولدت خديجة بن قنة في الجزائر العاصمة عام 1965، ونشأت في بيئة جزائرية محافظة عُرفت بقيمها الوطنية والدينية. منذ سنواتها الدراسية الأولى، أظهرت ميلاً واضحًا نحو اللغة والإلقاء والخطابة، وهو ما مهّد الطريق أمامها لاختيار الإعلام كمجال مهني مستقبلي.
درست الصحافة والإعلام في جامعة الجزائر، حيث تخرجت ضمن الدفعات الأولى التي تزامن تخرجها مع التحولات السياسية في البلاد خلال تسعينيات القرن الماضي. لاحقًا، تابعت دراستها العليا في فرنسا، مما منحها بُعدًا ثقافيًا مزدوجًا بين المشرق والمغرب، واطلاعًا على أساليب الإعلام الغربي.
التجربة الإعلامية الأولى: من الإذاعة الجزائرية إلى القنوات الدولية
بدأت خديجة بن قنة مسيرتها الإعلامية في الإذاعة الوطنية الجزائرية، حيث عملت كمذيعة أخبار ومقدمة برامج ثقافية. كانت تلك التجربة مهمة لصقل موهبتها واكتساب المهارات التقنية اللازمة في مجال الإعلام الصوتي. وبفضل أدائها المتقن، سرعان ما انتقلت للعمل في التلفزيون الجزائري، مقدمةً نشرات الأخبار والبرامج الحوارية.
نقطة التحول الحقيقية في مسيرتها المهنية جاءت في التسعينيات عندما التحقت بهيئة الإذاعة البريطانية (BBC Arabic). وقد كان هذا الانتقال بمثابة بوابة عبور نحو الإعلام الدولي الناطق بالعربية، حيث تعلمت أسس الإعلام العالمي، وتعرفت على معايير التحرير الإخباري المهني، واكتسبت خبرة في بيئة متعددة الثقافات.
الانضمام إلى قناة الجزيرة: بداية الشهرة الإقليمية
في عام 1996، ومع انطلاق قناة الجزيرة الإخبارية من العاصمة القطرية الدوحة، انضمت خديجة بن قنة إلى فريق العمل المؤسس، لتكون من بين أولى الوجوه النسائية التي ظهرت على شاشة القناة. وقد ساهم أسلوبها المهني الهادئ، وقدرتها على طرح الأسئلة الذكية، في ترسيخها كمذيعة موثوقة، وسرعان ما أصبحت من أبرز مذيعي نشرات الأخبار والبرامج الحوارية.
من خلال برنامجها الحواري “ما وراء الخبر”، ساهمت خديجة في إلقاء الضوء على القضايا السياسية الساخنة، وناقشت ملفات حساسة مثل الحروب في العراق وسوريا، والقضية الفلسطينية، والثورات العربية، والملف الإيراني، وغيرها من القضايا التي تشغل الرأي العام العربي والدولي. تميزت إدارتها للنقاشات بصرامة فكرية، وحياد مهني، وقدرة على ضبط إيقاع الحوار حتى في أكثر اللحظات توترًا.
الأسلوب المهني: مزيج من الاتزان والوعي السياسي
الصفة الأبرز في أداء خديجة بن قنة هي الجمع بين المهنية العالية والوعي السياسي العميق. لا تكتفي بنقل الحدث كما هو، بل تحلل السياقات، وتطرح الأسئلة التي تحفز التفكير وتدفع الضيوف إلى تقديم مواقف واضحة. هذا ما جعلها تكتسب احترام النخب السياسية والمثقفين، بالإضافة إلى المتابعين العاديين الذين وجدوا فيها نموذجًا للإعلام الجاد الذي لا ينجرف وراء الإثارة أو التسطيح.
كما اشتهرت خديجة بقدرتها على تمثيل المرأة العربية في الإعلام من دون التنازل عن القيم الثقافية أو المهنية. فهي من الوجوه القليلة التي استطاعت الحفاظ على حجابها دون أن يؤثر ذلك على حضورها الإعلامي أو يُنظر إليه كمحدّد لهويتها المهنية.
القضايا الإنسانية والدفاع عن فلسطين
تُعرف خديجة بن قنة بمواقفها الواضحة تجاه القضايا العادلة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. لم تكتفِ بتغطية أخبار فلسطين، بل حرصت على نقل المعاناة الإنسانية اليومية للفلسطينيين في ظل الاحتلال، وساهمت في تعزيز الوعي العربي والدولي بمعاناة غزة والقدس والضفة الغربية.
كما شاركت في العديد من المؤتمرات والمنتديات العالمية المدافعة عن حقوق الإنسان وحرية التعبير، واستخدمت منصاتها الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي لتسليط الضوء على معاناة الشعوب في مناطق النزاعات والحروب، لا سيما في اليمن وسوريا ولبنان.
حضورها على وسائل التواصل الاجتماعي
بفضل شخصيتها الجذابة، ومصداقيتها التي اكتسبتها على مرّ السنين، بات لخديجة بن قنة حضور قوي على منصات التواصل الاجتماعي، حيث يتابعها مئات الآلاف من الأشخاص من مختلف الدول العربية. توظف هذه المنصات ليس فقط للتفاعل مع الجمهور، بل أيضًا لنشر الوعي وتقديم تحليلات سريعة ومواقف من الأحداث الجارية.
أسلوبها في التدوين يعبّر عن شخصية مثقفة وواعية، حيث تجمع بين التحليل العميق والطرح المباشر، دون الوقوع في الشعاراتية أو الخطاب العاطفي الزائد.
الجوائز والتكريمات
خلال مسيرتها الحافلة، نالت خديجة بن قنة العديد من الجوائز والتكريمات العربية والدولية تقديرًا لمهنيتها وجهودها في مجال الإعلام. ومن بين أبرز الجوائز التي حصلت عليها:
| السنة | الجائزة أو التكريم | الجهة المانحة |
|---|---|---|
| 2006 | جائزة الإعلام العربي عن فئة أفضل مذيعة | نادي دبي للصحافة |
| 2011 | تكريم خاص من اتحاد الإعلاميات العربيات | القاهرة |
| 2019 | وسام الشرف للتميز الإعلامي | ملتقى الإعلام العربي – الكويت |
دورها في تمكين المرأة الإعلامية
تُعد خديجة بن قنة من الرائدات في مجال الإعلام العربي، واللاتي مهدن الطريق أمام أجيال جديدة من الإعلاميات العربيات. لم تقتصر رسالتها على تقديم البرامج الإخبارية فقط، بل كانت دائمًا صوتًا قويًا في الدفاع عن حقوق المرأة، وخاصة حقها في العمل الإعلامي دون قيود اجتماعية أو سياسية.
سعت من خلال مشاركاتها في المنتديات والمؤتمرات إلى تشجيع الفتيات على دخول مجال الإعلام، مع التمسك بالقيم الأخلاقية والمهنية التي تحكم هذا القطاع الحيوي. وقد شكّلت تجربتها مصدر إلهام للعديد من الإعلاميات في الدول المغاربية والمشرق العربي.
خديجة بن قنة: نموذج للصحفي المثقف
لا تنفصل شخصية خديجة المهنية عن خلفيتها الثقافية والفكرية. فهي قارئة نهمة، ومهتمة بالفكر السياسي والثقافي، وتتابع عن كثب التحولات العالمية في مجالات الإعلام والتكنولوجيا والمجتمع. وغالبًا ما يظهر هذا الاهتمام في طريقتها في إدارة الحوارات، واختيار الموضوعات، والتعاطي مع القضايا التي تتجاوز السطح إلى الجذور العميقة للمشكلات.
إنها تمثل نموذجًا للصحفي المثقف، الذي لا يكتفي بنقل الأخبار، بل يسعى إلى تفسيرها، وتحليل أبعادها، ومساعدة الجمهور على فهم ما وراء العناوين.
الختام: إرث إعلامي ومساهمة فكرية
خديجة بن قنة ليست فقط وجهًا إعلاميًا معروفًا، بل هي حالة متكاملة من الالتزام المهني والوعي الثقافي والإنساني. تركت بصمتها في الإعلام العربي المعاصر من خلال عملها في المؤسسات الكبرى، ومواقفها الجريئة، وإصرارها على تمثيل نموذج نسائي عربي قوي في ميدان مليء بالتحديات. وبينما يواصل الإعلام تطوره الرقمي، تظل خديجة بن قنة مثالًا يُحتذى في كيفية التمسك بالمهنية، والانخراط الفعّال في الدفاع عن قضايا الأمة والإنسانية.
المراجع:
-
الموقع الرسمي لقناة الجزيرة – www.aljazeera.net
-
موقع الاتحاد العام للإعلاميين العرب – www.arabmediagroup.org
