أول جهر بالقرآن في مكة

أول من جهر بالقرآن الكريم

منذ اللحظات الأولى لوحي القرآن الكريم، كان القرآن يتنزل على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ليكون دليلاً للبشرية جمعاء في جميع شؤون حياتها. لقد كان للقرآن الكريم، منذ نزوله، تأثير عميق في المجتمع العربي، خاصة في مكة المكرمة حيث كانت القبائل تتسم بالجاهلية، وقد كان لها طقوسها وأعرافها التي يصعب التغيير أو التأثير فيها. وسط هذا الجو المليء بالتحديات، كان نشر الإسلام أمرًا يتطلب شجاعة كبيرة، وكان من أولى المهمات التي تحققت في تلك الأيام، جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم، ليعلم العالم كله أن رسالة الإسلام قد بدأت.

مفهوم الجهر بالقرآن الكريم

الجهر بالقرآن الكريم يعني التلاوة بصوت مرتفع أمام الناس، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم، في بداية دعوته، يُكلف بقراءته للناس في الأماكن العامة كالسوق والمناطق العامة، ليوصل رسالة الله تعالى إلى قلب كل فرد. وكان هذا الأمر يمثل تحديًا كبيرًا، لأنه لم يكن معروفًا في المجتمعات العربية أن يتم رفع الصوت بالدعوة لربوبية الله تعالى، بل كان الحديث عن الأديان الأخرى، أو الانتصار لمعتقدات جديدة، يعرض صاحبه لخطر كبير.

أول من جهر بالقرآن الكريم

في البداية، كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم سرية، لم تخرج من إطار دائرة الأقربين فقط، وكان الإسلام يُدعى به في الخفاء بين الصحابة المقربين مثل: أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم من الصحابة الأوائل. لكن مع مرور الوقت، كان لا بد من جهر النبي بالدعوة. وبحسب الروايات التاريخية، فإن أول من جهر بالقرآن الكريم بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

كان عبد الله بن مسعود، الذي أسلم في وقت مبكر، من أقرب الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. تميز بنشأته في بيئة قريشية تميل إلى الانفتاح على الرسالات السماوية وتقبل الفكرة الدينية، مما جعله قادرًا على فهم الدعوة الإسلامية بمفاهيمها العميقة. كان عبد الله بن مسعود، وهو من أعيان مكة، قد شهد نزول الآيات الأولى من القرآن الكريم، وكان في نفسه شوق عميق في أن يعبر عن هذا الفيض من الإيمان أمام الآخرين.

الجهر بالقرآن الكريم في مكة

في وقت كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال يحاول نشر الإسلام في مكة بهدوء وفي إطار الدائرة الخاصة، كانت مكة مدينة مليئة بالآلهة التي يعبدها الناس، وكان الحفاظ على المعتقدات القديمة يمثل مسألة حياة أو موت للكثيرين. وهذا يوضح مدى شجاعة عبد الله بن مسعود، الذي رغم المحيط العدائي الذي كان يعيشه، قرر أن يعلن إيمانه من خلال جهره بالقرآن الكريم في مكان عام.

يروي بعض المؤرخين أن عبد الله بن مسعود خرج ذات يوم في صيف مكة قائلاً في نفسه: “أين أذهب؟ وكيف أبلغ الدعوة؟”، ففكر في المكان الذي سيجد فيه الجمهور، وعندما وصل إلى السوق، قرر أن يرفع صوته بالقرآن الكريم أمام أعين قريش وأهل مكة. فوقف في مكان مرتفع وبدأ يقرأ الآيات التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم. وتلا عبد الله بن مسعود آيات من سورة الرحمن، حيث كانت هذه السورة بداية لشهادة إيمانية شجاعة في وجه التهديد والوعيد الذي يلاحق المسلمين.

رد فعل قريش

كان للجهر بالقرآن الكريم من قبل عبد الله بن مسعود أثر كبير في أعداء الدعوة الإسلامية. كانت قريش في تلك الفترة تبحث عن أي ذريعة لإسكات المسلمين وتوجيه الشتائم لهم، بل كانوا يعذبونهم ويضطهدونهم على إثر إيمانهم. وعندما سمع أهل قريش صوت عبد الله بن مسعود وهو يقرأ القرآن في سوق مكة، ثاروا ضده، فاقترب منه أحدهم وانهال عليه بالضرب، وركله بطريقة بذيئة في محاولة لإسكاته وإجباره على التراجع عن جهره.

لكن عبد الله بن مسعود لم يرضخ لهذه الهجمات. بل استمر في تلاوته للقرآن الكريم، وأظهر بذلك قوة عزيمته وإيمانه الراسخ برسالة الإسلام. إن جهره بالقرآن الكريم في هذا الظرف الصعب كان بمثابة بداية تحول هائل في تاريخ الدعوة الإسلامية.

الأثر الاجتماعي والجهادي للجهر بالقرآن

كان الجهر بالقرآن الكريم خطوة هامة من أجل زيادة تأثير الدعوة الإسلامية في مكة. فبعد أن ظهر عبد الله بن مسعود وهو يقرأ القرآن الكريم في الأسواق، بدأ الناس من مختلف الطبقات في الاستماع إليه، رغم محاولات قريش وقف هذا الجهر. كانت النتيجة أن بعض الناس بدأوا يشهدون في قلوبهم نور الإسلام، وقد أسلم من ذلك اليوم عدد من الأفراد الذين تأثروا بهذه القراءة المؤثرة.

علاوة على ذلك، كانت تلك اللحظات الأولى التي جهر فيها المسلمون بالقرآن تفتح الطريق أمام دعوات أخرى مشابهة تلتها فيما بعد. كما أنها كانت تلقي الضوء على مصير هؤلاء الذين اختاروا الجهر بالدعوة، حيث كان لهم دور في تثبيت الإسلام داخل أيدي المسلمين، وتثبيت القيم الإنسانية التي جاء بها القرآن.

أثر الجهر بالقرآن الكريم في مجرى الدعوة

مع مرور الوقت، أصبح الجهر بالقرآن الكريم أكثر أهمية في حياة المسلمين، حيث بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في رفع صوته بالقرآن أمام الناس، وأصبح صحابته يتبعون هذا النهج في الأماكن العامة. كانت هذه خطوة نحو التوسع في نشر الإسلام خارج مكة المكرمة، وكان لها دور محوري في تطور الدعوة بشكل عام.

لقد ارتبط الجهر بالقرآن الكريم بالكثير من المعاني العميقة التي تتجاوز مجرد التلاوة. كان الجهر بالقرآن يمثل صراعًا بين الحق والباطل، بين النور والظلام، وبين الذين يتبعون سبل الله وبين أولئك الذين يحاولون أن يظلوا في الظلمات.

أهمية الجهر بالقرآن الكريم في فهم المسلمين لرسالتهم

لقد كان الجهر بالقرآن الكريم بمثابة إعلام علني من النبي صلى الله عليه وسلم ومن صحابته برسالة الإسلام. كان هذا الجهر بمثابة إعلان عن حرية العقيدة، ورفض للإكراه في الدين، وهو المبدأ الذي شدد عليه القرآن في أكثر من موضع، حيث قال الله سبحانه وتعالى: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” [البقرة: 256].

من خلال جهر الصحابة بالقرآن، صار المسلمون في مكة يتمتعون بشجاعة كبيرة في مواجهة كل تهديدات قريش، وقد أظهرت هذه التلاوات العلنية مدى قوة إيمان الصحابة بدينهم ورسالتهم.

الخاتمة

لقد كانت لحظة الجهر بالقرآن الكريم من عبد الله بن مسعود واحدة من أبرز اللحظات التي غيرت مسار الدعوة الإسلامية في مكة، وقد أظهرت للجميع أن الإسلام لن يظل مجرد فكرة مستورة بل سيكون دينًا سيجهر به الجميع، مهما كانت الصعوبات. وبتأثير ذلك الجهر، استطاع الإسلام أن يصل إلى قلوب العديد من الناس في مختلف أنحاء الجزيرة العربية.