حكم تنكيس القراءة في الصلاة

تُعد الصلاة الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي عماد الدين وأساس العبادة التي بها يتقرب العبد إلى الله عز وجل. ومن أهم مقومات صحة الصلاة وأداءها بشكل صحيح هو قراءة القرآن الكريم أثناء الصلاة. وفي هذا السياق، يبرز موضوع “تنكيس القراءة في الصلاة” كأحد القضايا الفقهية التي تتناول كيفية أداء القراءة في الصلاة، وحكم تغيير اتجاه القراءة سواء بإنزال النظر إلى المصحف أو رفعه إلى السماء، أو عكس اتجاه القراءة أثناء تلاوة الآيات. يهدف هذا المقال إلى تقديم دراسة موسعة وشاملة عن حكم تنكيس القراءة في الصلاة، وبيان أقوال العلماء ومذاهبهم الفقهية، ومدى تأثير هذا الفعل على صحة الصلاة، مع الاستناد إلى الأدلة الشرعية والنصوص الفقهية، وشرح المفاهيم المرتبطة بها بشكل مفصل.

مفهوم تنكيس القراءة في الصلاة

مصطلح “تنكيس القراءة” في الصلاة يعني تغيير اتجاه النظر أثناء القراءة في الصلاة بحيث يُنكس المصحف أو يُخفض النظر إلى الأسفل أو يتم عكس اتجاه التلاوة، خلاف الوضع الطبيعي الذي يُقرأ فيه القرآن في اتجاه محدد أثناء الصلاة، وعادة يكون النظر إلى المصحف أو إلى موضع القراءة بشكل مستقيم. هذا الفعل قد يتم بقصد أو بدونه، ويثير التساؤل حول مدى جوازه وحكمه الشرعي.

ففي الصلاة، يُقرأ القرآن على المكلف بصورة صحيحة ومتقنة، وقد يلجأ البعض إلى تنكيس المصحف، أو النظر إلى جهة أخرى غير وجه المصحف أو اتجاه القبلة، لأسباب متعددة منها تسهيل القراءة أو عدم القدرة على رفع المصحف أو تلاوة الآيات في اتجاه معين. ولذا فمن الضروري فهم حكم هذا التصرف في الصلاة.

حكم تنكيس القراءة في الصلاة في المذاهب الأربعة

تناول الفقهاء والمذاهب الإسلامية الأربعة موضوع تنكيس القراءة في الصلاة وأدلته بشكل مفصل، وبحسب كل مذهب تختلف التفاصيل والحكم العام كما يلي:

المذهب الحنفي

يرى الحنفية أن القراءة في الصلاة تكون بنية التلاوة وجوباً، وأن النظر إلى المصحف أثناء الصلاة جائز لكن ليس بواجب، فإذا أنكس القارئ المصحف أي غيّر اتجاه النظر أثناء القراءة فلا يفسد صلاته، ولا يبطل، ولا يؤثر على صحة الصلاة، بشرط أن يظل في حالة خشوع وتركيز في الصلاة. وتنكيس القراءة لا يعتبر من مكروهات الصلاة في المذهب الحنفي، فلا يؤثر على صحة الصلاة، بل هو مباح مع الأفضلية في ثبات النظر أثناء القراءة.

المذهب المالكي

يرى المالكية أن القراءة في الصلاة جائزة، لكن التركيز في القراءة ومراقبة الصلاة مطلوب، فإذا تم تنكيس القراءة لا يؤثر على صحة الصلاة ولا يبطلها، لكن من الأفضل أن يقرأ المصلي بوجه مستقيم أو على الأقل بنظره متجه إلى المصحف دون تنكيس. مع التشديد على خشوع المصلي أثناء القراءة. فإذا كان تنكيس القراءة يسبب تشتت الذهن أو اضطراب الخشوع فهو مكروه.

المذهب الشافعي

يعتبر الشافعية القراءة سنة مؤكدة في الصلاة، وأن المصلي يقرأ من المصحف أو من حفظه مع ثبات النظر على المصحف أو على موضع القراءة، وإذا تم تنكيس القراءة بحيث يُخفض النظر بشكل مخالف للعادة، فلا يفسد ذلك الصلاة، ولكن من مكروهات الصلاة التي ينبغي تجنبها للحفاظ على الخشوع والتركيز. لذا فالقراءة مع تنكيس المصحف لا تبطل الصلاة، ولكنها مخالفة للسنة المأمورة.

المذهب الحنبلي

في المذهب الحنبلي، يُعتبر تنكيس القراءة في الصلاة من الأمور التي لا تؤثر على صحة الصلاة، ولا تبطلها، لكن يفضل أن يقرأ المصلي والقراءة واضحة، مع ثبات النظر إلى المصحف أو إلى جهة القراءة. إذا انكسرت القراءة أو تم التنكيس فلا تبطل الصلاة، لكنها قد تؤثر على خشوع المصلي، ولذلك يُستحب تجنبها.

الأدلة الشرعية حول حكم تنكيس القراءة في الصلاة

ورد في السنة النبوية ما يدل على مشروعية القراءة في الصلاة وعلى أهمية ثبات النظر، لكن لا يوجد نص صريح حول حكم تنكيس القراءة تحديداً، مما جعل العلماء يعتمدون على الاستدلالات الفقهية ومراعاة المصلحة والمفسدة.

1. ثبات النظر في الصلاة: قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا في صلاتكم تمكناً ولا تعجلوا»، وفي هذا الحديث دلالة على أهمية التركيز والخشوع في الصلاة، وثبات النظر أثناء القراءة هو جزء من ذلك.

2. مشروعية القراءة من المصحف: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى وضع يده على المصحف، يقرأ منه». وهذا يدل على جواز القراءة من المصحف أثناء الصلاة، وهو ما يستلزم في العادة ثبات المصحف والنظر إليه.

3. الاعتدال وعدم الإعجاز: ورد في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الصلاة بالسهولة وعدم التعقيد، ولم يشدد على وضع المصحف في اتجاه معين أو على ثبات النظر بشكل صارم، مما يدل على أن تنكيس القراءة إن حصل دون تعمد فلا يضر.

حكم تنكيس القراءة في الصلاة من منظور الخشوع والتركيز

الخشوع في الصلاة هو حالة نفسية روحية يبتغيها المسلم، ومن أهم عوامل تحقيق الخشوع هو تهيئة النفس والتركيز في أداء الصلاة، ومن ضمن ذلك هو طريقة قراءة القرآن أثناء الصلاة. فتنكيس القراءة قد يؤدي إلى تشتيت الذهن وضعف الخشوع، خصوصاً إذا كان المصلي منشغلاً بكيفية الإمساك بالمصحف أو بتعديل اتجاهه بدلاً من التركيز في معاني القرآن والتوجه إلى الله.

لهذا فإن الفقهاء ينصحون بالحفاظ على ثبات المصحف أو النظر إلى جهة القراءة بشكل طبيعي دون تحريك مبالغ فيه أو تنكيس، ليتمكن المصلي من التركيز والخشوع في صلاته. فحكم تنكيس القراءة من حيث الخشوع قد يكون مكروهاً، لكنه لا يصل إلى حد الإفساد.

تأثير تنكيس القراءة على صحة الصلاة

في الغالب لا يؤثر تنكيس القراءة على صحة الصلاة، لأن شروط الصلاة تتعلق بوجوب القراءة وتحقيق القبول، ولا يشترط في القراءة أن تكون بنظرة محددة أو بطريقة معينة، طالما كانت القراءة صحيحة ومكتملة. ومن شروط صحة الصلاة بشكل عام: الطهارة، استقبال القبلة، أداء الأركان والواجبات، وخشوع القلب.

لكن إذا تسبب التنكيس في إخلال واضح بالتركيز أو أدى إلى انقطاع القراءة أو إلى تشتت الصلاة، فقد يدخل ضمن الأسباب التي تضر بالصلاة، فينصح المصلي بتجنب ذلك. ولذا يمكن القول أن التنكيس في القراءة لا يبطل الصلاة، لكنه قد يكون مكروهاً إذا أثّر على الخشوع.

أسباب تنكيس القراءة في الصلاة

تنكيس القراءة في الصلاة قد يحدث لأسباب متعددة منها:

• صعوبة الإمساك بالمصحف بشكل مريح، مما يجعل المصلي يعكس المصحف ليتمكن من القراءة.

• ضعف النظر أو حاجته إلى وضع المصحف بزاوية معينة ليستطيع قراءة الآيات بوضوح.

• التعود على قراءة القرآن من وضع معين خارج الصلاة، فيتكرر ذلك أثناء الصلاة.

• عدم معرفة كيفية الإمساك بالمصحف أثناء الصلاة، أو عدم استقرار وضعه في اليد.

• تشتت الذهن أو عدم الانتباه الكامل خلال الصلاة، مما يؤدي إلى تغير وضع القراءة دون قصد.

نصائح لتجنب تنكيس القراءة في الصلاة

لتفادي تنكيس القراءة في الصلاة وتحقيق الخشوع، ينصح باتباع مجموعة من الإرشادات التي تساعد المصلي على التركيز وتحسين أداء القراءة، منها:

• التدرب على الإمساك بالمصحف بطريقة مستقرة ومريحة قبل الصلاة.

• محاولة تثبيت المصحف أو استخدام حامل المصحف أثناء الصلاة لمنع تحريكه.

• القراءة من حفظ المصلي إذا تمكن من ذلك، فذلك يخفف عن المصلي حرج الإمساك بالمصحف.

• المحافظة على ثبات النظر أثناء القراءة وعدم الانشغال بتغيير وضع المصحف أو النظر بعيدًا.

• تدريب النفس على التركيز في معاني الآيات أثناء القراءة بدلاً من التركيز على الشكل أو الوضع.

مقارنة بين تنكيس القراءة ورفع المصحف في الصلاة

من الممارسات المختلفة التي قد تطرأ على قراءة المصحف أثناء الصلاة، هناك مَن يرفع المصحف إلى مستوى أعلى من المعتاد، ومَن ينكسه أو يوجهه للأسفل. كلا الحالتين لا تبطل الصلاة، لكن يُفضل الثبات على وضع مستقر، لتفادي التشتيت.

رفع المصحف يدل على احترام الكتاب الكريم، ويزيد من خشوع المصلي وتركيزه، بينما التنكيس أو التغيير المفرط قد يشتت التركيز، لكنه لا يبطل الصلاة.

جدول توضيحي لأحكام تنكيس القراءة في الصلاة بحسب المذاهب الأربعة

الخلاصة

حكم تنكيس القراءة في الصلاة يتفق عليه أغلب العلماء بأنه لا يبطل الصلاة ولا ينقص من صحتها، لكنه من المكروهات التي ينبغي للمصلي تجنبها حفاظاً على خشوعه وتركيزه أثناء الصلاة. القراءة الصحيحة والمستقرة للنصوص القرآنية أثناء الصلاة ترفع من مكانة الصلاة وقبولها، وتنمي حالة الروحانية والاتصال بالله عز وجل.

تنكيس القراءة في الصلاة قد يكون مباحًا في الحالات التي تستدعيه لظروف المصلي، كالضعف في الإمساك بالمصحف أو ضعف البصر، لكن يجب مراعاة ألا يؤثر ذلك على خشوع المصلي وتركيزه، لأن الصلاة كما أُمرت هي خشوع قلب وتدبر في معاني الكلمات مع أداء الأركان والواجبات.

لذلك، على المسلم أن يسعى لتحقيق أفضل شروط الصلاة، وأن يتعلم كيفية الإمساك بالمصحف وقراءته بطريقة مستقرة ومتزنة داخل الصلاة، مع الاستمرار في التدرب والتقرب إلى الله بخشوع وتدبر، مع مراعاة النصوص الشرعية وأقوال العلماء في هذا الشأن.

المصادر والمراجع

1. الفقه الإسلامي وأدلته – د. وهبة الزحيلي (تحقيق الدكتور محمد أحمد سلطان)، دار الفكر، دمشق، 2003.

2. المغني لابن قدامة، تحقيق د. عبد العزيز الدهلوي، دار الكتب العلمية، بيروت.