حكم التيمم من الجنابة في البرد

التيمم هو أحد الوسائل الشرعية التي أقرها الإسلام لتيسير العبادات عند تعذر استخدام الماء، وهو بديل مؤقت للوضوء أو الغسل في حالات معينة. ومن بين هذه الحالات، تعذر الغسل بالماء بسبب البرد الشديد، حيث يصبح استعمال الماء قد يؤدي إلى الضرر أو المرض. والحديث عن حكم التيمم من الجنابة في البرد يتطلب فهمًا دقيقًا لمفهوم التيمم، شروطه، وضوابطه الشرعية، بالإضافة إلى التفصيل في حكم التيمم بدلاً من الغسل عند الجنابة في ظروف البرد القارس.

تعريف التيمم وأحكامه الشرعية

التيمم لغة يعني الضرب أو الملامسة، وهو اصطلاحًا في الفقه الإسلامي: ضرب الوجه والكفين على شيء طاهر ثم مسحهما بهما بنية الطهارة، وهو مشروع شرعًا كبديل للوضوء أو الغسل إذا تعذر استعمال الماء.

التيمم مشروع بنصوص القرآن والسنة، فقد قال الله تعالى:

(فَمَن لَّمْ يَجِدْ مَاءً فَتَيَمَّمْ صَعِيدًا طَيِّبًا) [النساء: 43]

(وَإِن كُنتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) [النساء: 43]

وقد ثبت من السنة النبوية أن النبي ﷺ تيمم في حالات عدم توافر الماء، أو عند المرض الذي يمنع استخدام الماء.

شروط صحة التيمم

لكي يكون التيمم صحيحًا ويجزئ بدلاً عن الوضوء أو الغسل، لا بد أن تتوفر شروط عامة أهمها:

1. النية: وهي قصد التيمم للطهارة من الحدث أو الجنابة.

2. عدم وجود الماء أو تعذر استخدامه: إما بسبب عدم توفر الماء، أو بسبب المرض، أو في حالات الخوف من الضرر، كالبرد الشديد.

3. استعمال التراب الطاهر: يجب ضرب الوجه والكفين على تراب طاهر، أو شيء مشابه للتراب من حيث الطهارة، مثل الحجر أو الجدار إذا كان خاليًا من النجاسات.

4. الترتيب: مسح الوجه ثم اليدين إلى المرفقين، وفقًا لما ثبت في السنة.

مفهوم الجنابة ووجوب الغسل

الجنابة حالة من الحدث الأكبر التي تستوجب الغسل من أجل الطهارة اللازمة للصلاة وغيرها من العبادات التي تشترط الطهارة من الحدث الأكبر. ويحدث الجنابة بعد جماع أو انزال من غير جماع، أو غير ذلك من أسباب الحدث الأكبر.

الغسل من الجنابة فرض على المكلفين، حيث قال النبي ﷺ: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا جنب حتى يغتسل».

التيمم من الجنابة في البرد

في الحالة الطبيعية، الغسل من الجنابة يكون بالماء، ولا يجوز تركه إلا لعذر شرعي، وأحد أعظم الأعذار هو الخوف من المرض أو الضرر الناتج عن استعمال الماء في ظروف مناخية صعبة كالبرد الشديد. وهذا ما يتناوله الفقهاء في مسألة التيمم بدلاً من الغسل.

الأدلة الشرعية التي تجيز التيمم بدلاً من الغسل

الأدلة من القرآن والسنة كثيرة في جواز التيمم عند تعذر استخدام الماء، ومنها:

• قوله تعالى: (وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) [النساء: 43]

• حديث جابر رضي الله عنه قال: «كنا مع النبي ﷺ في سفر، فمرض رجل منا فلم يجد ماءً فقام يتيمم» (رواه البخاري ومسلم).

وهذه الأدلة عامة تشمل كل من لديه حدث أصغر أو أكبر، ومن ذلك الجنابة.

البرد الشديد سبب شرعي للتيمم بدلاً من الغسل

الفقهاء اعتبروا الخوف من الضرر سببًا مشروعًا لترك الغسل واستعمال التيمم، خاصة عند البرد الشديد الذي قد يؤدي استعمال الماء إلى المرض أو تفاقمه، أو إذا كان الإنسان مريضًا ويخاف على صحته من الغسل بالماء البارد أو الساخن.

قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: “إذا خاف الإنسان الضرر من الغسل أو الوضوء بالماء جاز له التيمم”.

وقال أيضًا المالكية: “يجوز التيمم إذا تعذر الغسل بالماء، كخوف المرض أو الضرر”.

وهذا يعني أن البرد الشديد، الذي قد يسبب مرضًا أو يزيده، يعتبر عذرًا واضحًا لاستعمال التيمم بدلاً من الغسل.

التفصيل في الحكم الفقهي للتيمم من الجنابة في البرد

• المشهور بين العلماء: يجوز لمن عليه غسل الجنابة، ولا يستطيع استعمال الماء بسبب البرد الشديد، أن يتيمم، ويكون تيممه شرعيًا، ويجزئه عن الغسل، مع وجوب الغسل بعد زوال العذر (أي بعد أن يدفأ الجو أو يتوفر الماء الدافئ).

• الأدلة من مذهب الإمام أبي حنيفة والشافعي والحنابلة تدعم هذا القول، إذ إن القاعدة الشرعية في الفقه الإسلامي تنص على أن الضرر يزال بقدر الإمكان، فإذا كان الغسل بالماء يسبب ضررًا فلا يلزم، ويجوز التيمم.

• المالكية يشددون قليلاً على ضرورة استعمال الماء إذا أمكن، لكنهم يقرون أن التيمم جائز في حالة الخوف من الضرر والبرد الشديد.

كيفية التيمم من الجنابة في حالة البرد

التيمم عند الجنابة يتطلب أن ينوي الشخص الطهارة من الحدث الأكبر، ويتبع خطوات التيمم المأثورة:

1. النية: ينوي التيمم للتطهر من الجنابة.

2. ضرب الوجه: يضرب كفيه على التراب الطاهر أو ما يعادله، ثم يمسح بهما الوجه.

3. ضرب اليدين: يضرب يديه مرة أخرى على التراب، ثم يمسح اليدين إلى المرفقين.

بهذا الشكل، يصبح التيمم جائزًا ونافذًا بدلاً من الغسل في ظروف البرد الشديد.

أثر التيمم في أداء العبادات

بعد التيمم، يكون الإنسان طاهرًا شرعًا ومستعدًا لأداء الصلاة وغيرها من العبادات التي تتطلب الطهارة من الحدث الأكبر. فلا يمنع التيمم من إتمام الصلاة، ولا يترتب عليه أي نقصان في صحة العبادة طالما أن العذر موجود والنية صحيحة.

لكن يجب التنويه إلى أن التيمم هو بديل مؤقت وليس دائمًا، ويجب على المسلم أن يغتسل بالماء متى توفرت الظروف الملائمة، وأزال العذر الذي منعه من استعمال الماء.

مقارنة بين التيمم والغسل من الجنابة

ضوابط التيمم من الجنابة في البرد

• النية الصحيحة: يجب أن ينوي الشخص التيمم للطهارة من الجنابة، وإلا لم يصح.

• استخدام التراب الطاهر: لا يجوز التيمم على شيء نجس أو غير طاهر، والتراب الطاهر هو الأفضل.

• استعمال التيمم عند الضرورة: لا يجوز استعمال التيمم إذا لم يكن هناك عذر كالبرد أو عدم توفر الماء.

• التيمم بديل مؤقت: يجب الغسل بالماء متى ما أتيحت الفرصة، إذ لا يعادل التيمم الغسل إلا عند الضرورة.

• الترتيب: يجب مسح الوجه أولاً ثم اليدين، كما ورد عن النبي ﷺ.

أهمية مراعاة الأحوال الصحية والمناخية

البرد القارس قد يسبب العديد من المشاكل الصحية، مثل نزلات البرد، والتهاب المفاصل، والتشنجات العضلية، خاصة إذا تعرض الجسم للماء البارد فجأة أو لفترة طويلة. لذلك شرع التيمم حفاظًا على صحة الإنسان، وتأمينًا على سلامته من المرض، مع حفظ عبادة الطهارة وأداء الفروض.

العناية بالجانب الصحي في العبادات أمر مهم، والإسلام يحث على التيسير وعدم التعقيد، لذا جاء التيمم ليحقق ذلك التوازن بين الحفاظ على صحة الإنسان وإتمام الفرائض.

حالات أخرى يجيز فيها التيمم بدلاً من الغسل

إلى جانب البرد الشديد، هناك حالات أخرى تجيز التيمم بدلاً من الغسل مثل:

• المرض المزمن أو الشديد: الذي يمنع استخدام الماء.

• سفر في أماكن لا تتوفر فيها المياه أو المياه غير صالحة للطهارة.

• عدم توفر الماء النظيف أو الصالح للغسل.

خاتمة

التيمم من الجنابة في البرد حكمه جائز شرعًا، وهو وسيلة رحمة وتيسير لمن يعجز عن استخدام الماء بسبب البرد الشديد الذي قد يؤدي إلى المرض أو الضرر. التيمم بديل مؤقت يلزم معه التوبة إلى الغسل بعد زوال العذر. هذا الحكم مستند إلى نصوص قرآنية وسنة نبوية، وهو متفق عليه بين الفقهاء مع بعض الفروقات التفصيلية التي لا تغير في الحكم الكلي.

مراعاة التيمم في حالات البرد الشديد تحفظ صحة الإنسان وتيسر عليه أداء العبادات دون إشكال، وهو دليل واضح على مرونة الشريعة الإسلامية وحكمتها في التعامل مع ظروف الحياة المختلفة.

المصادر والمراجع

• القرآن الكريم

• صحيح البخاري، صحيح مسلم

• شرح النووي على صحيح مسلم

• المجموع شرح المهذب، النووي

• الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي