بر الوالدين: فضيلة عظيمة وأساس في تربية المجتمعات

بر الوالدين هو من أعظم القيم الإنسانية التي حث عليها الإسلام وجميع الشرائع السماوية، وهو من العبادات التي تعبّر عن شكر الإنسان لأمه وأبيه، وتقديرهما على ما بذلاه من جهد وتضحيات في تربية الأبناء ورعايتهم. يُعتبر بر الوالدين من أعمدة الأسرة المتينة وأساسًا لقيام المجتمعات المتماسكة، فهو يعكس الاحترام والمحبة والتقدير بين الأجيال، ويُسهم في نشر القيم الأخلاقية السامية التي تعزز السلم الاجتماعي والتواصل الإنساني.

تعريف بر الوالدين وأهميته في الإسلام

البر في اللغة هو إحسان الشيء، وبر الوالدين يعني الإحسان إليهما بكل أنواع الخير، سواء بالكلام الطيب أو بالأفعال التي ترضيهم، والابتعاد عن كل ما يغضبهما. أما في الشريعة الإسلامية، فقد أُوصي به بشدة واحتل منزلة عظيمة في القرآن الكريم والسنة النبوية. قال الله تعالى في محكم كتابه:

“وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا” (الإسراء: 23)

ويقول أيضًا:

“وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا” (الإسراء: 24)

وقد جعل الله بر الوالدين من أسباب رضاه، ومن أسباب دخول الجنة، حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن رضى الله في رضى الوالد وسخط الله في سخط الوالد.

مظاهر بر الوالدين

يتجسد بر الوالدين في عدة صور وأفعال تبدأ منذ الطفولة وتمتد إلى مراحل العمر كافة، وتشمل:

• الإحسان بالقول: من أهم مظاهر البر استخدام الكلام اللين والجميل مع الوالدين، وعدم التلفظ بكلام قاسٍ أو جارح، بل على العكس يجب أن يُحسن الإنسان حديثه معهم حتى في أوقات الغضب أو الخلاف.

• الإحسان بالفعل: يشمل ذلك الطاعة في غير معصية الله، وتقديم المساعدة لهم في حياتهم اليومية، والاهتمام بصحتهم وراحتهم، وتلبية حاجاتهم المادية والمعنوية.

• الدعاء لهما: الدعاء للوالدين بالرحمة والمغفرة من أجمل صور البر التي تُظهر مكانتهما في القلب، وتجعل بين الإنسان وربه علاقة مميزة بفضل هذا الدعاء.

• الصبر عليهما في الشيخوخة: مع تقدم الوالدين في العمر وكثرة احتياجهم للحنان والرعاية، يصبح الصبر والرفق بهما أمرًا ضروريًا، فلا يجوز تجاهلهما أو التقليل من شأنهما.

• زيارة الوالدين والجلوس معهم: قضاء الوقت مع الوالدين من أكبر أسباب برهما، حيث يشعران بذلك بالحب والاهتمام، ويقوي روابط الأسرة.

• عدم الإضرار بهما أو تعريضهما للإهانة: حماية الوالدين من أي أذى كان لفظيًا أو جسديًا هو حق لهم ويُعد من البر العميق.

أبعاد بر الوالدين الاجتماعية والنفسية

يُسهم بر الوالدين في بناء مجتمع صحي ومتوازن نفسيًا واجتماعيًا، حيث إن العلاقة الإيجابية بين الأجيال تخلق بيئة عائلية مستقرة تسودها المحبة والاحترام. هذا الاستقرار الأسري ينتقل أثره إلى المجتمع ككل، فينشأ جيل متماسك قادر على تحمل المسؤولية والتفاعل بإيجابية مع الآخرين.

البر بالوالدين يخلق أيضًا حالة من التوازن النفسي للإنسان، إذ يشعر بالأمان الداخلي والقيمة الذاتية، ويمنحه شعورًا بالرضا والامتنان. من جهة أخرى، فإن تجاهل الوالدين أو الإساءة إليهما يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات نفسية واجتماعية، ويتسبب في ضعف الروابط الأسرية وانتشار الفوضى الأسرية.

الآثار الصحية والعقلية لبر الوالدين

تشير الدراسات العلمية إلى أن العلاقات الأسرية الصحية والاحترام المتبادل بين الأبناء والآباء تساهم في تقليل مستويات التوتر والقلق، وتحسن من الصحة النفسية بشكل عام. كما أن رعاية الوالدين تؤدي إلى تحسين حالتهم الصحية، مما يقلل من مخاطر الأمراض المزمنة المرتبطة بالتقدم في العمر.

هذا التوازن النفسي والجسدي ينعكس على جودة الحياة لكل من الوالدين والأبناء، مما يجعل المجتمع أكثر قدرة على التطور والنمو.

التحديات المعاصرة التي تواجه بر الوالدين

في عصرنا الحالي، تواجه قيم البر بالوالدين بعض التحديات بسبب الانشغالات العديدة، والتغيرات الاجتماعية السريعة التي تؤثر على أنماط الحياة الأسرية. قد يؤدي التوتر الاقتصادي، والابتعاد الجغرافي، والاعتماد على التكنولوجيا إلى تقليل فرص التواصل المباشر بين الأبناء والآباء، مما يؤثر سلبًا على العلاقة بينهم.

كما أن بعض القيم الفردية قد تعزز من رغبة الشباب في الاستقلالية المطلقة، مما قد يُغفل مسؤوليات البر بالوالدين، ولا سيما في مجتمعات تعاني من ضغوطات العمل والحياة العصرية.

بر الوالدين في السنن والتقاليد الاجتماعية

بالرغم من اختلاف العادات والتقاليد بين الشعوب، إلا أن البر بالوالدين يعد قيمة عالمية لها حضور بارز في جميع الثقافات، فهو جزء من التقاليد التي توارثتها الأجيال، والتي تحث على الاحترام المتبادل والمحافظة على أواصر الدم.

في العديد من المجتمعات، تُقام الاحتفالات والمناسبات الخاصة التي تكرم الوالدين، ويتخذ البر أشكالًا من الخدمة والرعاية، كما تُمنح لهم مكانة خاصة في اتخاذ القرارات العائلية.

المسؤولية القانونية والأخلاقية تجاه الوالدين

البر بالوالدين ليس فقط شعورًا داخليًا أو عرفًا اجتماعيًا، بل هو أيضًا مسؤولية أخلاقية وقانونية في العديد من الدول. ففي بعض التشريعات، تُعتبر رعاية الوالدين واجبًا قانونيًا على الأبناء، ويُعاقب من يترك والديه بلا رعاية أو إساءة.

الأخلاق والدين يدعوان إلى إعطاء هذه المسؤولية أولوية تامة، ولا يجوز الاستهانة بها تحت أي ظرف، لأن ذلك يؤدي إلى تفكك الأسرة ومشكلات اجتماعية أكبر.

جدول يوضح بعض واجبات البر بالوالدين

خاتمة

بر الوالدين يمثل أحد أهم القيم التي تقوم عليها المجتمعات المتحضرة، وهو جسر التفاهم بين الأجيال وقاعدة أساس للحياة الأسرية السليمة. يعكس هذا البر حب الإنسان وامتنانه لمن سهروا على تربيته وحمايته، وهو رمز للإحسان والرحمة التي تسود في العلاقات الإنسانية.

إن المحافظة على هذه القيمة يتطلب وعيًا وثقافة عميقة بين أفراد المجتمع، مع توفير الدعم المادي والمعنوي للآباء والأمهات، وتقديم نموذج حضاري يُبرز احترام كبار السن واعتبارهم جزءًا لا يتجزأ من نسيج المجتمع.

المجتمعات التي تهمل هذه القيمة تواجه خطر التفكك والاضطراب، بينما تلك التي تحفظ البر بالوالدين تنعم بالاستقرار والازدهار، ويُصبح الأبناء قدوة في الأخلاق وحسن المعاملة.

المراجع:

1. القرآن الكريم، تفسير الطبري، دار الفكر، 1990

2. كتاب “الأخلاق الإسلامية”، محمد الغزالي، دار الشروق، 2005