حسن البنا: المؤسس والمشروع والدلالة التاريخية

مقدمة

يُعد حسن أحمد عبد الرحمن البنا واحدًا من أبرز الشخصيات الفكرية والدينية والسياسية في تاريخ العالم العربي والإسلامي في القرن العشرين. برز اسمه كمؤسس لجماعة الإخوان المسلمين، وهي الحركة التي مثّلت في زمانها استجابة فكرية وتنظيمية للظروف السياسية والاجتماعية والدينية التي كانت تمر بها مصر والعالم الإسلامي عامةً خلال فترة ما بين الحربين العالميتين. تميز البنا بقدرته على مزج الفكر الإسلامي التقليدي بروح التنظيم والعمل الحركي العصري، مما جعله شخصية محورية ليس فقط على المستوى المصري بل على امتداد العالم الإسلامي.

النشأة والتكوين العلمي

وُلد حسن البنا في 14 أكتوبر عام 1906 في قرية المحمودية التابعة لمحافظة البحيرة في مصر. نشأ في بيتٍ متدين، وكان والده أحمد عبد الرحمن البنا عالمًا في الحديث وصاحب مؤلفات في الفقه والحديث النبوي. لعب الأب دورًا محوريًا في تكوين شخصية حسن البنا من خلال غرس القيم الإسلامية وتعليمه أصول الدين واللغة العربية منذ صغره. تلقى تعليمه الابتدائي في قريته، ثم انتقل إلى دمنهور لاستكمال دراسته الإعدادية، قبل أن يلتحق بدار العلوم بالقاهرة، حيث تخرج فيها عام 1927.

كان تعليمه الأكاديمي متأثرًا بمنهجيات الأزهر ودار العلوم التي تجمع بين علوم اللغة والدين، مما شكّل له قاعدة معرفية مكنته من صياغة خطاب دعوي قادر على التفاعل مع مختلف الفئات الاجتماعية. كما تأثر خلال فترة شبابه بعدد من الحركات الإسلامية والإصلاحية مثل دعوة الإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني.

السياق التاريخي والاجتماعي

جاء ظهور حسن البنا في وقتٍ كانت فيه مصر تعاني من آثار الاحتلال البريطاني منذ عام 1882، بالإضافة إلى تفكك الخلافة الإسلامية بعد انهيار الدولة العثمانية عام 1924. كانت الساحة الفكرية والسياسية في مصر تشهد صراعًا محتدمًا بين القوميين، والعلمانيين، والإسلاميين، والليبراليين، والاشتراكيين، ما فتح المجال أمام بروز حركات دينية تسعى لاستعادة الهوية الإسلامية في الحياة العامة.

في هذا المناخ، كانت الدعوة إلى العودة للإسلام كمرجعية شاملة للحياة تلقى رواجًا بين قطاعات واسعة من المجتمع، خصوصًا في ظل الإحساس بالضياع الحضاري والانبهار بالنموذج الغربي الذي فرض نفسه ثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا على الشعوب الإسلامية. وجد البنا في هذا الواقع المأزوم الأرضية الخصبة لتأسيس حركته الإصلاحية الشاملة.

تأسيس جماعة الإخوان المسلمين

في مارس عام 1928، أسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين في مدينة الإسماعيلية، برفقة ستة من العمال المصريين العاملين في شركة قناة السويس. كان الهدف المعلن من تأسيس الجماعة هو “إقامة دولة إسلامية تحكم بشرع الله”، و”إصلاح المجتمع في ضوء الإسلام”. سرعان ما توسعت الجماعة وتجاوز نشاطها الدعوي مدينة الإسماعيلية لتنتشر في باقي المدن المصرية، حيث فتحت المقرات والمكاتب في القاهرة والوجهين البحري والقبلي.

اعتمدت الجماعة منذ البداية على تنظيم دقيق يشبه النظام الحزبي الحديث، ولكن بمرجعية إسلامية. كما شجعت على التعليم، وافتتحت المدارس، والمراكز الصحية، والجمعيات الخيرية، وربطت بين العمل الاجتماعي والدعوة الدينية، مما زاد من قاعدتها الشعبية. وأظهر البنا قدرة عالية على الخطابة والتأثير في الناس، مما أكسبه حضورًا لافتًا في الساحة العامة.

الفكر والدعوة

يتسم فكر حسن البنا بالشمولية، إذ كان يرى أن الإسلام دين ودولة، عبادة وقيادة، مصحف وسيف. وقد حاول تقديم رؤية متكاملة للإسلام تشمل جميع مناحي الحياة: من العقيدة والعبادات إلى السياسة والاقتصاد والثقافة. انتقد الفصل بين الدين والدولة الذي فرضته النخب العلمانية الغربية، واعتبر أن الإسلام يقدم نموذجًا حضاريًا متكاملاً يصلح لكل زمان ومكان.

كان يؤمن بالبناء التربوي التدريجي، حيث ركّز على إصلاح الفرد المسلم، ثم الأسرة المسلمة، فالمجتمع، وصولًا إلى الدولة الإسلامية. ومن هنا جاءت فلسفة “المراتب السبع” التي طرحها في خطته الإصلاحية، وهي: الفرد، الأسرة، المجتمع، الشعب، الحكومة، الدولة الإسلامية، ثم الخلافة الإسلامية.

كما أولى عناية خاصة بالجانب التربوي من خلال حلقات التعليم، و”الكتيبة”، و”الأسرة” و”الشعبة”، وهي وحدات تنظيمية داخل الجماعة تهدف إلى إعداد العضو من الناحية الروحية والفكرية والحركية. هذا النظام ساهم في تماسك الجماعة واستمراريتها حتى بعد وفاة مؤسسها.

العلاقة بالسياسة والنظام الحاكم

على الرغم من أن حسن البنا لم يدخل الانتخابات بنفسه، إلا أنه أدرك أهمية العمل السياسي كوسيلة لتحقيق مشروعه الإسلامي. بدأ الإخوان بالتأثير في الحياة السياسية المصرية منذ منتصف الثلاثينيات، من خلال المظاهرات، والبيانات، والمشاركة في النقاشات العامة حول الاستقلال والدستور والتشريعات. عارض البنا الاستعمار البريطاني، وشارك أتباعه في المظاهرات الوطنية، بل انخرطوا في بعض الأحيان في أعمال المقاومة المسلحة، خاصة خلال حرب فلسطين عام 1948.

إلا أن العلاقة بين الجماعة والنظام السياسي الحاكم لم تكن دائمًا ودية، إذ بدأت تظهر التوترات مع النظام الملكي بعد ازدياد نفوذ الجماعة وتوسعها. ومع تصاعد التهديد الذي كانت تمثله جماعة الإخوان للحكم، بدأت المواجهة المباشرة، خصوصًا بعد أن اتُهمت الجماعة بضلوعها في عمليات اغتيال سياسي، وهو ما نفاه حسن البنا في أكثر من مناسبة، مؤكدًا أن الجماعة ليست حزبًا سياسيًا يسعى للسلطة، بل حركة إصلاحية تهدف لخدمة الإسلام.

الاغتيال والنهاية الغامضة

في 12 فبراير 1949، اغتيل حسن البنا في وسط القاهرة بعد خروجه من اجتماع مع مسؤول حكومي. أُطلقت عليه الرصاصات أمام جمعية الشبان المسلمين، وتُوفي بعدها بساعات. لم يُحاسب أي شخص على جريمة الاغتيال، رغم توافر الأدلة التي تشير إلى ضلوع جهاز الدولة، خاصة أن الحادث وقع بعد فترة قصيرة من اغتيال رئيس وزراء مصر محمود فهمي النقراشي، الذي كانت له مواجهة مباشرة مع الإخوان.

كان اغتيال البنا لحظة مفصلية في تاريخ مصر الحديث، إذ فتح الباب أمام مرحلة من الصراع بين الجماعة والدولة، امتدت لعقود لاحقة. كما أن الغموض الذي اكتنف وفاته أسهم في نسج أسطورة حول شخصه، وزاد من تأثيره الرمزي في نفوس أتباعه وخصومه على السواء.

الإرث الفكري والتنظيمي

رغم قصر حياته (لم يتجاوز عمره 43 عامًا)، ترك حسن البنا إرثًا غنيًا شمل عددًا كبيرًا من المقالات والرسائل والمذكرات، أبرزها رسائل “الإخوان المسلمين”، التي تُعد حجر الأساس في فهم منهجه وفكره. تتميز هذه الرسائل بالبساطة في التعبير والوضوح في الأهداف، مما ساهم في وصولها إلى جمهور واسع.

كما أن الأسس التنظيمية التي وضعها ظلت قائمة حتى اليوم، وشكلت النموذج الحركي الذي تبنته الحركات الإسلامية في كثير من الدول الإسلامية، بل وحتى خارجها. وانتشرت أفكار الإخوان إلى السودان، وسوريا، والأردن، وفلسطين، وتركيا، وشمال إفريقيا، وغيرها، لتصبح الجماعة واحدة من أكثر الحركات تأثيرًا في التاريخ الإسلامي المعاصر.

الانتقادات والتقييمات

لم يكن حسن البنا محل إجماع، إذ اختلفت التقييمات حوله بين من يراه مجددًا إسلاميًا أعاد الدين إلى صلب الحياة العامة، وبين من يعتبره مسؤولًا عن إدخال الدين في السياسة بطريقة أفرزت أزمات لاحقة. وُجهت إليه انتقادات تتعلق بغياب الموقف الواضح من التعددية السياسية، وبغموض بعض مفاهيمه، وباستعمال التنظيم السري المسلح داخل الجماعة.

رغم ذلك، لا يمكن إنكار الأثر العميق الذي تركه في الفكر الإسلامي المعاصر، سواء من حيث التنظيم أو من حيث المحتوى الفكري والرسالي. وقد ظل اسمه يتردد في أدبيات الحركات الإسلامية المختلفة، وأصبح نموذجًا يُحتذى في العمل الدعوي والحركي عند الكثير من الحركات الإسلامية.

الجدول: التسلسل الزمني لحياة حسن البنا

الخاتمة

يمثل حسن البنا ظاهرة فكرية وتنظيمية بارزة في التاريخ الإسلامي الحديث، تجسدت فيها أحلام النهضة الإسلامية، وآمال التحرر من الاستعمار، والرغبة في استعادة الهوية الحضارية. بقيت أفكاره ومشروعه محل نقاش واسع، بين من يراها أساسًا لحركة تجديدية عظيمة، ومن يعتبرها منطلقًا لإشكاليات معقدة في العلاقة بين الدين والدولة. لكن المؤكد أن تأثيره ظل حاضرًا في المشهد السياسي والديني لعقود طويلة بعد وفاته، ولا تزال بصماته واضحة في العديد من الحركات الإسلامية حول العالم.

المراجع

1. حسن البنا، مذكرات الدعوة والداعية، دار الشروق، القاهرة.

2. ريتشارد ميتشل، الإخوان المسلمون في مصر: نمو جماعة إسلامية راديكالية، ترجمة مركز الأهرام للترجمة والنشر.