جورج واشنطن: أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية وبداية الجمهورية الحديثة

يُعد جورج واشنطن أحد أعمدة التاريخ السياسي والعسكري في الولايات المتحدة، ليس فقط لأنه أول رئيس لها، بل لأن دوره الحاسم في تأسيس النظام الجمهوري الأميركي شكّل حجر الأساس للدولة الحديثة التي ستصبح لاحقاً إحدى أقوى الأمم على وجه الأرض. يمتد أثره إلى ما هو أبعد من فترة ولايته الرئاسية، إذ يُنظر إليه باعتباره “أب الأمة الأميركية”، ورمزاً للقيادة الحكيمة التي ساهمت في ولادة نظام ديمقراطي حديث عقب حرب الاستقلال عن بريطانيا العظمى. هذا المقال يعالج بتفصيل علمي وتحليلي سيرة جورج واشنطن، من ولادته حتى وفاته، ويستعرض أبرز محطات حياته العسكرية والسياسية، وتأثيراته العميقة على التاريخ الأميركي والعالمي.

النشأة والتكوين المبكر

ولد جورج واشنطن في الثاني والعشرين من فبراير عام 1732 في مقاطعة ويستمورلاند بولاية فرجينيا، التي كانت آنذاك إحدى المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية. نشأ في بيئة ريفية تنتمي إلى الطبقة المتوسطة من ملاك الأراضي. توفي والده عندما كان جورج لا يزال في سن الحادية عشرة، ما دفعه لتحمل المسؤولية في سن مبكرة.

تلقى تعليمه الأساسي في المنزل، وركز بشكل رئيسي على دراسة الرياضيات والمساحة الجغرافية، وهو ما أهّله للعمل لاحقاً كمسّاح أراضٍ في سن السابعة عشرة. هذا العمل أكسبه خبرة ميدانية في التعامل مع الأراضي الغربية غير المستكشفة، كما وسّع فهمه للجغرافيا الإستراتيجية التي ستلعب لاحقاً دوراً كبيراً في مسيرته العسكرية.

المسيرة العسكرية: من الضابط في الجيش البريطاني إلى قائد ثوري

بدأت حياة واشنطن العسكرية في سن العشرين، عندما انضم إلى الميليشيات التابعة لولاية فرجينيا، وشارك في حرب السنوات السبع، المعروفة في أمريكا باسم الحرب الفرنسية والهندية. أثبت خلالها كفاءته العسكرية وحنكته القيادية، مما منحه مكانة مرموقة في أوساط السياسيين والعسكريين بالمستعمرات.

لكن نقطة التحول الكبرى جاءت عندما تصاعد التوتر بين المستعمرات البريطانية والعرش البريطاني في لندن، على خلفية الضرائب المجحفة والتدخل في شؤون الحكم المحلي. ومع اندلاع شرارة الثورة الأميركية في عام 1775، اختير جورج واشنطن بالإجماع قائداً عاماً للجيش القاري من قبل المؤتمر القاري الثاني.

قاد واشنطن القوات الأمريكية في سلسلة من المعارك الشرسة ضد القوات البريطانية، وكان من أبرزها معركة ترينتون ومعركة برينستون، إلى جانب الحصار الحاسم في يوركتاون عام 1781، الذي أنهى فعلياً الصراع لصالح المستعمرات. اتسمت قيادته بالصبر الإستراتيجي والقدرة على استنهاض الروح المعنوية لدى الجنود في أصعب اللحظات، خاصة خلال شتاء فالي فورج القاسي.

تأسيس الجمهورية: من قائد منتصر إلى رئيس منتخب

عقب نهاية حرب الاستقلال، كان بإمكان جورج واشنطن أن يستغل شعبيته للهيمنة على السلطة، وربما لتأسيس نظام ملكي جديد، كما كان شائعاً في أوروبا آنذاك. لكن واشنطن فاجأ الجميع بتنازله الطوعي عن قيادة الجيش عام 1783 وعودته إلى حياته الخاصة في مزرعته بـ”ماونت فيرنون”، في تصرف اعتبره المؤرخون من أعظم أعمال الإيثار في التاريخ السياسي الحديث.

لكن لم يطل به المقام في العزلة، إذ تم اختياره لاحقاً لرئاسة المؤتمر الدستوري في فيلادلفيا عام 1787، حيث تم وضع الدستور الأميركي الذي لا يزال قائماً حتى اليوم. وبعد إقرار الدستور، جرى انتخابه بالإجماع أول رئيس للولايات المتحدة الأميركية عام 1789، في سابقة لم تتكرر.

فترتا الرئاسة (1789-1797): وضع اللبنات الأولى للجمهورية

خلال فترتي رئاسته (1789-1797)، قام جورج واشنطن بتشكيل النواة المؤسسية للدولة الفيدرالية الجديدة، وأرسى المبادئ التي ستحكم الرئاسة الأميركية لقرون لاحقة. اختار حكومة تعتمد على الكفاءة والخبرة، ومن أبرز أعضائها ألكسندر هاملتون كوزير للخزانة وتوماس جيفرسون كوزير للخارجية، على الرغم من التباينات الكبيرة بينهما، ما يعكس نزعته التوافقية.

السياسة المالية والاقتصادية

تبنى واشنطن، عبر وزير خزانته هاملتون، سياسات اقتصادية تهدف إلى بناء قاعدة مالية قوية للدولة الجديدة. شملت هذه السياسات إنشاء بنك وطني، وتوحيد الديون العامة، وفرض ضرائب جديدة لتأمين الإيرادات. واجهت هذه السياسات معارضة كبيرة من الفلاحين وبعض الولايات الجنوبية، لكنها مهدت لبنية اقتصادية قادرة على دعم المؤسسات الفيدرالية.

العلاقات الخارجية

في السياسة الخارجية، فضّل واشنطن مبدأ الحياد، خاصة في ظل الصراعات الكبرى بين فرنسا وبريطانيا في تسعينيات القرن الثامن عشر. أصدر إعلان الحياد عام 1793، رافضاً الدخول في أي تحالفات طويلة الأمد، وهو ما عُرف لاحقاً بـ”مبدأ واشنطن في العزلة السياسية”، الذي ظل يوجه السياسة الخارجية الأميركية حتى القرن العشرين.

مواجهة التحديات الداخلية

شهدت فترة حكمه تمرّد ويسكي في ولاية بنسلفانيا عام 1794، والذي اندلع احتجاجاً على الضرائب المفروضة على الكحول. أظهر واشنطن حنكة كبيرة في التعامل مع التمرد، حيث قاد بنفسه قوات اتحادية لقمعه دون اللجوء إلى العنف المفرط، ما رسّخ هيبة الدولة الفيدرالية الوليدة.

رفض الولاية الثالثة ورسالة الوداع

في خطوة تعكس نزعته الجمهورية العميقة، رفض واشنطن الترشح لولاية رئاسية ثالثة، على الرغم من عدم وجود نص دستوري يمنعه من ذلك. وقد أرسى بذلك تقليداً ديمقراطياً استمر حتى القرن العشرين، حين جرى تعديله دستورياً عام 1951.

أصدر واشنطن في ختام حكمه “رسالة الوداع”، وهي وثيقة سياسية وفكرية عميقة دعت إلى تجنب الانقسام الحزبي، والابتعاد عن التحالفات الخارجية الدائمة، وتعزيز الوحدة الوطنية. وقد اعتُبرت هذه الرسالة خريطة طريق سياسية للولايات المتحدة على مدار أكثر من قرن.

الحياة بعد الرئاسة والوفاة

عاد واشنطن بعد مغادرته المنصب إلى مزرعته في ماونت فيرنون، حيث كرّس وقته للزراعة وإدارة شؤونه الخاصة. لكنه ظل شخصية محورية في الحياة السياسية، وكان على استعداد لتقديم المشورة للرؤساء والكونغرس عند الحاجة.

توفي جورج واشنطن في الرابع عشر من ديسمبر عام 1799، عن عمر يناهز 67 عاماً، إثر إصابته بعدوى حادة في الحلق. وقد خيّم الحزن على الأمة الأميركية بأكملها، وأُقيمت له جنازات رمزية في العديد من الولايات.

الإرث التاريخي والفكري لجورج واشنطن

يُنظر إلى جورج واشنطن كرمز عالمي للقادة المؤسسين، ليس فقط لأنه قاد ثورة ناجحة ضد الاستعمار، بل لأنه رفض السلطة المطلقة في وقت كانت معظم الأمم تُحكم من قبل ملوك ونبلاء. وقد مثّل نموذجاً نادراً للقائد الذي يضع المصلحة العامة فوق طموحاته الشخصية.

أثرت رؤاه السياسية وممارساته الحكومية في صياغة فلسفة الحكم الأميركي، وألهمت حركات تحررية حول العالم. كما أن حضوره في الثقافة الأميركية لم يتلاشَ بعد وفاته، بل ظل جزءاً مركزياً من الذاكرة الوطنية، تجسّد في العملة الورقية (الدولار) والنُصب التذكارية والمناهج التعليمية.

جدول – أبرز المحطات في حياة جورج واشنطن

المصادر

• Chernow, Ron. Washington: A Life. Penguin Press, 2010.

• Ellis, Joseph J. His Excellency: George Washington. Vintage Books, 2005.