تفسير سورة الضحى ومعانيها

تفسير سورة الضحى: المعاني العميقة والرسائل الإيمانية

سورة الضحى من السور المكية التي نزلت على النبي محمد ﷺ في بداية الدعوة الإسلامية، وتأتي هذه السورة في سياق تثبيت قلب النبي الكريم، ورفع معنوياته بعد فترة من انقطاع الوحي عنه، وهي سورة تتكون من 11 آية، لكنها تحمل بين طياتها كنوزًا من المعاني الروحية والنفسية والبلاغية. وتُعدّ من أبرز السور التي تمثل علاقة الله تعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم، والعناية الإلهية التي تحفّه في لحظات الابتلاء والضعف.

أولًا: نظرة عامة على السورة

سورة الضحى نزلت بعد فترة من الفتور في نزول الوحي، وهي الفترة التي أثارت القلق في قلب النبي ﷺ، وأصبحت مثارًا للتشكيك من أعداء الرسالة، حيث قال بعض المشركين إن رب محمد قد قلاه، أي هجَره وتركه. فجاءت هذه السورة بردًا وسلامًا على قلب النبي، تفتح أبواب الأمل والطمأنينة، وتعيد الثقة إلى النفس النبوية المباركة.

السورة تبدأ بقسم رباني ﴿وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ﴾، ثم تليها مجموعة من التقريرات الإلهية التي ترفع قدر النبي صلى الله عليه وسلم وتثبّته، وتنتهي بتوجيهات عملية تشكل خريطة منهجية للأخلاق الإسلامية.

الآيات الأولى: القسم والسكينة

﴿وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ﴾

الضحى هو وقت إشراق الشمس وعلوّها في كبد السماء، وهو رمز للنور والبعث والحياة. أما الليل إذا سجى، فمعناه حين يهدأ ويسكن، وهو رمز للسكينة والسكون. في هذين الوقتين المتضادين: الضياء والسكون، يظهر القسم الرباني للدلالة على أن كل حال يتبدل، فكما أن الليل يعقبه نهار، فإن العسر يتبعه يسر، والانقطاع يتبعه الاتصال.

هذا القسم هو تمهيد لما بعده، إذ يوحي بأن التغيرات في الحياة سنّة إلهية، ولكنها لا تعني الهجر أو الغضب من الله، بل قد تكون لحكمة عليا.

نفي الهجر والرضا الإلهي

﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ﴾

في هذه الآية نفي واضح وجازم لما زعمه الكفار من أن الله قد ترك نبيه، فكلمة “ما ودّعك” تنفي الوداع بمعنى المفارقة، و”ما قلى” تنفي البغض أو الكراهية. وهنا يوضح الله تعالى أن تأخر الوحي لا يعني الفراق أو السخط، بل هو جزء من حكمة ربانية قد تخفى على العبد.

تشير هذه الآية إلى أن المشاعر الإنسانية التي تراود النفس المؤمنة حتى لو كانت نبيًا، هي محل عناية ورحمة من الله، وأن الاستجابة لها تأتي في وقتها المناسب، بحكمة ورحمة مطلقة.

المستقبل أفضل بإذن الله

﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ﴾

هنا بشارة عظيمة للنبي ﷺ ولكل مؤمن بأن المستقبل، سواء في الدنيا أو الآخرة، سيكون أفضل من الحاضر أو الماضي. فالمعاناة التي يمر بها الإنسان اليوم، لن تدوم، بل سيأتي بعدها من الخير ما يعوّضه الله به.

الآية تعكس فلسفة قرآنية متكررة تتجلى في آيات مثل ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، حيث يُربى المسلم على الصبر والثقة بأن الله لا يترك عبده أبدًا، بل يدخر له الأفضل.

العطاء الإلهي المستمر

﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ﴾

تأتي هذه الآية لتؤكد على وعد إلهي بالعطاء، ليس فقط في الآخرة، بل في الدنيا أيضًا. وقد فُسِّر هذا العطاء بأنه النصر، والنبوة، وأمته، وشفاعة كبرى في يوم الحساب. قال ابن عباس: «منتهى رضا النبي أن لا يدخل أحد من أمته النار». فالله وعد نبيه بالعطاء حتى يرضى، وهو أبلغ ما يمكن أن يُقال في الطمأنة والتكريم.

التذكير بالنِّعم السابقة

﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ﴾

تأخذ السورة منحى تذكيريًا، يستعرض فيه الله تعالى نعمه السابقة على النبي ﷺ في ثلاث مراحل:

1. يتيمًا فآوى: ولد النبي يتيمًا، فقد مات أبوه قبل ولادته وأمه وهو صغير، ولكن الله آواه إلى جده ثم عمه، ورفعه في كنف رحمته.

2. ضالًا فهدى: ليس المقصود بالضلال هنا الضلال العقدي، بل عدم معرفة تفاصيل الرسالة، فهداه الله بالوحي.

3. عائلًا فأغنى: كان النبي فقيرًا في شبابه، ثم أغناه الله من فضله، سواء بالزواج من خديجة رضي الله عنها أو بفتح الرزق لاحقًا.

هذه الآيات تذكّر أن الله الذي رعى النبي في ماضيه، لن يتركه أبدًا في حاضره أو مستقبله.

توجيهات خُلقية واجتماعية

﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾

تأكيد على الرعاية الاجتماعية لمن عاش ظروف اليُتم، والنهي عن قهر اليتيم أو استغلال ضعفه، لأنه لا سند له إلا الله، ومن قهره فقد خالف تعاليم السماء.

﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾

السائل هنا يشمل من يسأل علمًا أو مالًا، فلا ينبغي زجره أو إذلاله، بل يُعطى أو يُرَدّ بلطف ورفق، فالتعامل الإنساني الرفيع هو من سمات المؤمنين.

﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾

أمرٌ بالاعتراف بالنعم وشكرها وإظهارها قولًا وفعلاً، على أن يكون ذلك من باب الحمد لا التفاخر، ومن باب العظة لا الكِبر. هذه الآية تحثّ المؤمنين على إدراك الفضل الإلهي الدائم.

الجدول التالي يلخص موضوعات السورة:

الدروس المستفادة من سورة الضحى

• الصبر في الشدائد: انقطاع الوحي لم يكن عقوبة بل اختبار، وهذا يُعَلِّم الإنسان المؤمن أن فترة الغياب لا تعني الرفض أو الإهمال.

• الثقة بوعد الله: كل وعد في السورة يحمل يقينًا بأن الله يخطط لعبده خيرًا، حتى وإن تأخر تحقق ذلك في نظر الإنسان.

• الوعي الاجتماعي: السورة تدعو إلى الرحمة بالضعفاء والاهتمام بالطبقات الفقيرة مثل الأيتام والسائلين.

• الشكر العملي: التحدث بنعمة الله ليس ترفًا بل واجبًا؛ ليعرف الناس أن الخير من الله، وأن حفظه وكرمه لا ينقطع.

الخاتمة

سورة الضحى من السور القرآنية العظيمة التي تعالج مشاعر الحزن والخذلان، وتبني في النفس الإيمان بقرب الله وعدله. هي سورة للمظلومين، لليتامى، للفقراء، لكل من ظن أن الله نسيه. إنها تثبيت نفسي وروحي، وتجسيد عملي لمعاني الرحمة والعطاء واليقين، وتظل آياتها من أعظم مصادر السكينة في لحظات الانكسار الإنساني.

المراجع:

• الطبري، جامع البيان في تأويل آي القرآن.

• ابن عاشور، التحرير والتنوير.