تفسير سورة الحاقة بالكامل

تفسير سورة الحاقة

تعدُّ سورة الحاقة من السور المكية التي نزلت في بداية العهد المكي، وتتمثل أهميتها في احتوائها على مشاهد قوية من يوم القيامة وعلاماته، وتفصيل مصير المكذبين من الأمم السابقة، إضافة إلى تقديم وصف بالغ الدقة ليوم الحساب والجزاء. تأتي السورة بأسلوب بياني فريد يجمع بين الإيقاع القوي، والتكرار المؤثر، والتصوير البلاغي المهيب. وتتكوَّن سورة الحاقة من 52 آية، وهي السورة التاسعة والستون في ترتيب المصحف الشريف، ونزلت بعد سورة الملك.

يتجلّى في سورة الحاقة محور العقيدة الإسلامية في أبهى صوره: إثبات البعث، وعظمة يوم القيامة، والجزاء العادل للمؤمنين والمكذبين. ويتبين من خلال الآيات أن السورة تهدف إلى إنذار المشركين وتخويفهم بعواقب التكذيب والتمادي في الغي والضلال، مع تثبيت قلب النبي محمد ﷺ، والتأكيد على صدق رسالته.

اسم السورة ودلالته

سُمّيت السورة بـ”الحاقة” لأنها تفتتح بلفظ “الحاقة”، وهو من أسماء يوم القيامة، ويفيد المعنى اللغوي للكلمة “الشيء الثابت المحقق الذي لا مفر منه”، وتكرار الاسم في مطلع السورة يثير الانتباه ويبعث الخشية في النفس.

﴿ٱلْحَاقَّةُ ﴿1﴾ مَا ٱلْحَاقَّةُ ﴿2﴾ وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ﴾ (الآيات 1-3)

هذا التكرار في الآيات الأولى، جاء بأسلوب الاستفهام التقريري، لإثارة الدهشة والتعظيم من هول يوم القيامة، وكأنّ السورة تستهل بكلمات توقظ السامع وتدعوه إلى التأمل في مصير محتوم قادم لا محالة.

عرض مصير المكذبين من الأمم السابقة

بعد إثارة المشهد عن يوم القيامة، انتقلت السورة إلى ضرب الأمثلة بالأمم التي كذبت رسل الله، وعوقبت بعذاب شديد، فكانت عبرة للمكذبين من قريش وغيرهم.

﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌۭ بِٱلْقَارِعَةِ﴾ (الآية 4)

ثمود:

﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا۟ بِٱلطَّاغِيَةِ﴾ (الآية 5)

الطاغية هنا إشارة إلى الصيحة العاتية التي أبادت ثمود، وهي صوت شديد أفنى الأرواح ودمر الجبال، كما ورد في تفاسير الطبري والقرطبي.

عاد:

﴿وَأَمَّا عَادٌۭ فَأُهْلِكُوا۟ بِرِيحٍۢ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍۢ﴾ (الآية 6)

أُهلكت عاد بريح باردة شديدة، استمرت عليهم سبع ليال وثمانية أيام، تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل خاوية، أي جذوع نخيل فارغة من الداخل، لتصوير الهلاك الشامل والمخيف.

التحذير من مصير مماثل لقريش

جاء التحذير غير المباشر من مصير قريش إن هم كذبوا بالحق:

﴿فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّنۢ بَاقِيَةٍ﴾ (الآية 8)

هذا الاستفهام يوحي بانقراض تلك الأمم بالكامل، وكأن التاريخ قد طمس آثارهم تمامًا، وهو تذكير للعرب بأن لا أحد فوق السنن الإلهية.

ذكر مصير فرعون ومن معه

﴿وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُۥ وَٱلْمُؤْتَفِكٰتُ بِٱلْخَاطِئَةِ﴾ (الآية 9)

ذُكر فرعون، ومن قبله من الطغاة، و”المؤتفكات” تعني القرى التي انقلبت على رؤوسها بفعل العذاب، وهي إشارة إلى قوم لوط.

﴿فَعَصَوْا۟ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةًۭ رَّابِيَةًۭ﴾ (الآية 10)

أي أخذهم الله بعقوبة شديدة عظيمة متزايدة لا نجاة منها.

مشهد من أهوال القيامة

في منتصف السورة، تنتقل الآيات إلى تصوير رهيب ليوم القيامة، باستخدام أدوات بلاغية تصويرية قوية، تُرسخ في الذهن صورة عنف ذلك اليوم:

﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى ٱلْمَآءُ حَمَلْنَـٰكُمْ فِى ٱلْجَارِيَةِ﴾ (الآية 11)

وهذا تذكير بسفينة نوح، وكيف نجى الله المؤمنين، وتركها آية عبرة للمكذبين، وهو تأسيس لفكرة النجاة من العذاب عبر الإيمان والاتباع.

انقسام الناس يوم القيامة

تصل السورة إلى الذروة في تصوير مشهد الحساب، وهو أحد أعظم مشاهد السورة وأكثرها تأثيرًا، حيث ينقسم الناس إلى فريقين: من يأخذ الكتاب بيمينه، ومن يأخذه بشماله.

الفريق الأول: السعداء

﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَءُوا۟ كِتَـٰبِيَهْ﴾ (الآية 19)

هذا المشهد يمثل الفرح العظيم عند المؤمن الذي يستلم كتابه، فينادي الناس ليروا كتابه مليئًا بالحسنات. ويلي ذلك وصف النعيم:

﴿فَهُوَ فِى عِيشَةٍۢ رَّاضِيَةٍۢ ﴿21﴾ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾ (الآيتان 21-22)

الفريق الثاني: الأشقياء

﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُۥ بِشِمَالِهِۦ فَيَقُولُ يَـٰلَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـٰبِيَهْ﴾ (الآية 25)

ثم يسترسل في الندم: ليتني لم أعرف حسابي، ليتها كانت القاضية، ما أغنى عني مالي، هلك عني سلطاني.

﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ﴿30﴾ ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴿31﴾ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍۢ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًۭا فَٱسْلُكُوهُ﴾ (الآيات 30–32)

يصف هذا الجزء العذاب الجسدي والنفسي لأهل النار، ويتجلى هنا أسلوب السورة الرهيب في التصوير الصوتي والبصري.

جدول توضيحي للفريقين يوم الحساب

العلّة في العقوبة: الكبر والجحود

﴿إِنَّهُۥ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ﴾ (الآية 33)

السبب المباشر لعذابه هو إنكاره لعظمة الله، والكبر الذي منعه من الإيمان، وهو من أخطر الأمراض القلبية، لأنه يُغلق القلب عن الحق.

خاتمة السورة: إثبات الوحي ومقام النبي ﷺ

بعد بيان مشاهد القيامة، ومصير الكافرين، تختم السورة بالدفاع عن النبي محمد ﷺ وإثبات صدق الرسالة:

﴿فَلَآ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ﴿38﴾ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ﴿39﴾ إِنَّهُۥ لَقَوْلُ رَسُولٍۢ كَرِيمٍ﴾ (الآيات 38-40)

يؤكد الله عز وجل أن هذا القرآن ليس قول شاعر أو كاهن، بل هو وحي من الله، نزل به جبريل على محمد ﷺ.

﴿وَإِنَّهُۥ لَتَذْكِرَةٌۭ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (الآية 48)

أي أن في القرآن موعظة حقيقية نافعة للمتقين، بينما المكذبون لا يجدون فيه إلا الجدال والخصومة.

الرسائل المركزية في السورة

1. تحقيق الإيمان باليوم الآخر: السورة تشكّل بناءً عقائديًا متينًا لمفهوم البعث والحساب والجزاء.

2. التحذير من التكذيب: عرضت السورة نماذج تاريخية لعقاب المكذبين.

3. ترسيخ صدق الرسالة: نَفَت السورة أية تهمة بأن القرآن كهانة أو شعر.

4. بيان عدل الله: كل شخص سيُجزى بعمله، لا ظلم في الآخرة.

5. التأكيد على جزاء المؤمنين ووعيد المكذبين: قسم عادل بين أهل الجنة وأهل النار.

خاتمة تحليلية

تُعَدُّ سورة الحاقة من السور المكية القوية في تصويرها ومضامينها العقدية. فهي تتناول بأسلوب تصويري جمالي مهيب أحداث يوم القيامة، وتهدم مزاعم المكذبين، وتغرس في القلوب الخشية من عذاب الله، وتُثبِّت قلوب المؤمنين، خاصة في بدايات الدعوة. اللغة المستخدمة فيها مكثفة بالتهديد والوعيد، لكن تختم بتعظيم قدر القرآن والنبي ﷺ، لتؤسس لعقيدة رسوخ الوحي، وعدالة الرب، ومصير الإنسان الذي يحدده إيمانه أو كفره.

المراجع:

• تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن.

• تفسير ابن كثير، دار طيبة للنشر والتوزيع.