تغير الصداقات بعد الجائحة

شهد العالم تحوّلًا اجتماعيًا غير مسبوق نتيجة لجائحة كوفيد-19، التي فرضت على المجتمعات البشرية عزلة قسرية وأعادت تشكيل مفاهيم التواصل والعلاقات بين الأفراد. وقد كان لهذه التغيرات أثر عميق على الصداقات، حيث تغيرت أنماط التواصل واللقاء، وظهرت تحديات جديدة في المهارات الاجتماعية لدى الأفراد، خاصة بعد فترات طويلة من التباعد الاجتماعي. المقال التالي يستعرض أبعاد هذا التحول، تأثيره على العلاقات الشخصية، ويقترح وسائل فعالة للتغلب على المهارات الاجتماعية التي ضعفت خلال هذه الفترة، مستندًا إلى الدراسات النفسية والاجتماعية المعاصرة.

أولًا: الصداقات في زمن كوفيد-19

1. العزلة الاجتماعية وتأثيرها النفسي

خلال فترة الإغلاق، فرضت الجائحة نمطًا من التباعد الاجتماعي الإجباري الذي تسبب في عزل الأفراد عن محيطهم المعتاد من الأصدقاء والمعارف. ووفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية، فإن العزلة الطويلة أسهمت في ارتفاع نسب القلق والاكتئاب بنسبة تجاوزت 25% عالميًا. هذا الانفصال المفاجئ عن التفاعلات اليومية تسبب في فتور في العلاقات وحتى في انهيار بعض الصداقات التي كانت تعتمد على اللقاءات المنتظمة والتفاعل المباشر.

2. تغير أولويات العلاقات

مع مرور الوقت، أعادت الجائحة تشكيل نظرة الأفراد للصداقات. الكثيرون بدأوا يدركون أهمية العلاقات العميقة والصادقة، مقابل العلاقات السطحية القائمة على المصالح أو العادات الاجتماعية. أصبح التركيز على “الجودة” بدلًا من “الكمية” سمة بارزة في الصداقات الجديدة التي نشأت بعد الجائحة.

ثانيًا: المهارات الاجتماعية بعد العزلة

1. ضعف التفاعل اللفظي وغير اللفظي

من أبرز التحديات التي واجهها الناس بعد الجائحة ضعف المهارات الاجتماعية الأساسية، كالقدرة على بدء محادثة، الحفاظ على لغة الجسد الإيجابية، فهم الإشارات غير اللفظية، أو حتى الانخراط في مجموعات اجتماعية. ووجدت دراسة من جامعة كاليفورنيا أن 38% من المشاركين شعروا بعدم الارتياح أو الخجل عند العودة للتواصل الاجتماعي المباشر بعد الإغلاق.

2. القلق الاجتماعي والارتباك

كثير من الأشخاص طوّروا شكلًا من القلق الاجتماعي بعد فترة العزلة، حيث أصبحت اللقاءات الاجتماعية تسبب توترًا وقلقًا نفسيًا. الأمر يعود جزئيًا إلى فقدان الثقة بالنفس في السياقات الاجتماعية، والاعتياد على العزلة كوسيلة آمنة.

ثالثًا: كيف نعيد بناء الصداقات

1. استرجاع العلاقات القديمة

ينبغي بداية السعي لإحياء العلاقات التي كانت قائمة قبل الجائحة، من خلال المبادرة بالتواصل، إرسال رسائل ودية، أو اقتراح لقاءات خفيفة لإعادة بناء الجسور. العلاقات الحقيقية لا تموت بسهولة، لكنها تحتاج إلى صيانة مستمرة.

2. احترام تغير الآخر

أثناء الجائحة، مرّ الجميع بتجارب مختلفة، لذلك من المهم أن يدرك الفرد أن الأصدقاء قد يكونون تغيروا فكريًا أو نفسيًا. تقبّل هذه التغيرات هو أساس في استمرارية العلاقة دون صدامات أو خيبات.

3. استخدام التكنولوجيا بشكل إيجابي

ما بعد الجائحة، أصبح من المقبول دمج التكنولوجيا في التواصل مع الأصدقاء. المحادثات المصورة، الرسائل الصوتية، والمجموعات الإلكترونية يمكن أن تساهم في الحفاظ على الروابط، خاصة في حال التباعد الجغرافي.

رابعًا: استعادة المهارات الاجتماعية تدريجيًا

1. الانخراط التدريجي في التجمعات

لا يُشترط أن يبدأ الشخص بحضور المناسبات الكبيرة أو الأنشطة الاجتماعية المرهقة نفسيًا، بل يُنصح بالبدء بلقاءات بسيطة مع أشخاص مقرّبين، في بيئات مريحة، مما يساعد على استعادة الثقة بالتدريج.

2. التدريب على المحادثات

تُعد القدرة على المحادثة من أهم المهارات الاجتماعية. يمكن تدريب النفس على ذلك من خلال قراءة مواضيع متنوعة، إعداد نقاط للحوار، أو التدرّب عبر المرآة أو بمساعدة صديق مقرب. يساعد هذا على تقليل التوتر وزيادة الطلاقة.

3. الاستعانة بمجموعات الدعم

تتوفر في العديد من المجتمعات مجموعات دعم للقلق الاجتماعي أو لمساعدة الأفراد على استعادة مهاراتهم الاجتماعية. هذه المجموعات تقدم بيئة آمنة للتجربة والخطأ، وتوفر ملاحظات بنّاءة لتحسين الأداء الاجتماعي.

خامسًا: دور المؤسسات التربوية والاجتماعية

على المؤسسات التعليمية، وأماكن العمل، والمجتمعات المحلية، أن تدرك هذا التحول الاجتماعي وتعمل على تسهيل عودة الأفراد للحياة الطبيعية. من خلال تنظيم ورش عمل تفاعلية، تدريبات على الذكاء العاطفي، وتعزيز بيئة داعمة، يمكن للمجتمع أن يساعد الأفراد على تجاوز الصعوبات الاجتماعية الناتجة عن الجائحة.

سادسًا: أثر الجائحة على الأطفال والمراهقين

الفئة العمرية الأصغر تأثرت بشكل خاص، إذ أن مراحل الطفولة والمراهقة هي الحاسمة في تطوير المهارات الاجتماعية. الانقطاع عن المدرسة والأنشطة الجماعية أدى إلى تأخر في تطور المهارات الاجتماعية لدى كثير من الأطفال. لذا من الضروري أن يتم توفير برامج دعم نفسي واجتماعي موجهة لهذه الفئة، تشمل أنشطة جماعية تفاعلية، جلسات إرشاد، وتمارين لتعزيز التعاون والتواصل.

سابعًا: التأقلم مع مفهوم “الصداقات الرقمية”

مع انتشار استخدام الإنترنت في التواصل خلال الجائحة، أصبحت “الصداقات الرقمية” نمطًا جديدًا من العلاقات الإنسانية. ومع أن بعض هذه الصداقات تفتقر للعمق العاطفي، إلا أن لها أهمية خاصة في تعزيز الشعور بالانتماء وتقليل الشعور بالوحدة. يجب فقط معرفة كيفية موازنتها مع العلاقات الواقعية لضمان تواصل صحي ومستدام.

ثامنًا: الفرق بين العزلة الصحية والعزلة المرضية

من المهم التفرقة بين الرغبة في بعض الوقت الخاص للاسترخاء وإعادة الشحن، وبين العزلة الاجتماعية الضارة. الأولى تساعد على تحسين التركيز والصحة النفسية، بينما الثانية تؤدي إلى تدهور الحالة النفسية والاجتماعية. الحفاظ على توازن صحي بين التفاعل الاجتماعي والوقت الفردي أمر جوهري للصحة النفسية.

جدول: الفروق بين الصداقات قبل وبعد كوفيد-19

تاسعًا: خطوات عملية لتعزيز الحياة الاجتماعية

1. وضع أهداف اجتماعية محددة: كأن يقرر الشخص الخروج مرة أسبوعيًا أو التواصل مع صديق جديد شهريًا.

2. الاستماع الفعّال: تحسين مهارات الإنصات والتفاعل مع الطرف الآخر دون مقاطعة.

3. الصدق في التعبير: مشاركة المشاعر بصدق دون خوف من الأحكام.

4. المرونة والانفتاح: تقبل الاختلافات في الآراء وأنماط الحياة.

5. الاهتمام الحقيقي بالآخرين: عبر تذكّر المناسبات الخاصة، أو تقديم الدعم عند الحاجة.

عاشرًا: بناء صداقات جديدة بعد الجائحة

الانفتاح على صداقات جديدة يتطلب شجاعة، خاصة بعد فترة من التباعد، إلا أن الانخراط في مجتمعات جديدة (كالأنشطة التطوعية أو الثقافية) يمكن أن يسهم في التعرف على أشخاص يشاركون نفس الاهتمامات. كذلك، يجب التخلي عن فكرة أن الصداقات الحقيقية لا تُبنى إلا في مرحلة الطفولة أو الدراسة؛ فالحياة مليئة بالفرص لتكوين علاقات إنسانية ثرية في مختلف مراحل العمر.

ختامًا: نحو مجتمع أكثر تواصلًا وإنسانية

رغم الصعوبات التي فرضتها جائحة كوفيد-19 على النسيج الاجتماعي، إلا أنها منحت الإنسان فرصة للتأمل في علاقاته، وتقييم مدى عمقها وصدقها. صحيح أن المهارات الاجتماعية تأثرت، لكن بالإرادة والتدريب والتواصل المستمر، يمكن استعادتها بل وتطويرها بشكل أعمق. بناء صداقات صحية بعد الجائحة ليس أمرًا مستحيلًا، بل هو ضرورة لبناء مجتمع متماسك ومتوازن نفسيًا واجتماعيًا.

المراجع:

1. World Health Organization. (2022). Mental health and COVID-19.

2. American Psychological Association. (2021). Social anxiety and pandemic recovery.

3. University of California Study on Post-Pandemic Social Skills.

4. National Institute of Mental Health. (2023). Effects of Social Isolation.

5. Pew Research Center. (2022). How friendships have changed post-pandemic.