تعريف الجمال وأبعاده المتنوعة

عنوان المقال: روعة الجمال في عيون المتأملين

الجمال، ذلك المفهوم الذي ظلّ عبر العصور يشغل الفكر الإنساني، ويستفزّ الشعور، ويثير التأمل والتساؤل. إنه ليس مجرّد هيئة أو مظهر، بل هو انعكاس لأعماق الروح، وتعبير عن التناغم بين الشكل والمضمون، بين الظاهر والباطن. فكما أن الزهرة لا تُدهش فقط بألوانها، وإنما أيضاً بعطرها، فإن الجمال في الإنسان والطبيعة والفن والفكر، هو ذلك المزيج العميق الذي يتجاوز السطح ليبلغ أعماق الوجدان.

في الفلسفة القديمة، كان الجمال من القيم العليا التي ترتبط بالخير والحق، فكان أفلاطون يرى أن الجمال هو انعكاس للعالم المثالي، وأنه عندما نرى شيئًا جميلاً، فإننا في الواقع نتذكر الكمال الذي نفترِضه في عالم المُثُل. بينما اعتبر أرسطو أن الجمال يقوم على التناسب والتناغم، وأن كل شيء يصبح جميلاً حين تتكامل أجزاؤه ضمن وحدة متناسقة. هذا الربط بين الجمال والتنظيم العقلي، يعبّر عن البُعد المعرفي للجمال، وهو ما ظلّ سائداً حتى في التصورات الجمالية الحديثة.

أما في الأدب العربي، فقد حظي الجمال بمكانة رفيعة، فالشعراء منذ العصر الجاهلي حتى العصور المتأخرة تغنّوا بالجمال، سواء في المرأة أو في الطبيعة أو حتى في الصفات الخلقية والمعنوية. الجمال عند امرئ القيس كان في العيون والقد والحديث، أما عند المتنبي فقد تماهى الجمال مع الكبرياء والعزة، وصار مزيجاً بين المظهر والقوة. في حين تناول جبران خليل جبران الجمال من منظور روحي فلسفي، حين قال: “الجمال ليس في الوجه، الجمال جمال الروح”.

يُستَشعَر الجمال في كلّ ما يحيط بالإنسان، ولكنه يُدرَك بشكل خاص حين تكون النفس مستعدة لتذوّقه. قد تمرّ آلاف الأزهار أمام إنسان غارق في الهموم فلا يرى منها إلا عشوائية الألوان، بينما تنبض زهرة وحيدة بالحياة في عيون المتأمل. هذا البعد النفسي للجمال يربط بين حال الإنسان الداخلي وبين قدرته على تذوّق الجمال، وكأن الجمال لا يسكن الأشياء وحدها، بل ينكشف بتفاعله مع البصيرة.

الجمال أيضًا ليس حكراً على الكائنات الحية أو المشاهد الطبيعية، بل هو متجسد في الأفكار، في الأفعال، في القيم. كلمة طيبة، موقف إنساني نبيل، لحظة صدق، هذه كلها تجليات جمالية تنبض بالروعة وتستحق الاحتفاء. كثيراً ما يقال إن “الجمال أخلاق”، وهي عبارة تلخّص رؤية عميقة ترى أن الجمال الحقيقي يبدأ من الداخل. فالجسد وحده لا يكفي ليكون الإنسان جميلاً، إن لم يكن قلبه جميلاً وأخلاقه مشرقة.

في عالم يتزايد فيه الاهتمام بالمظاهر والصور المُفلترة، بات الجمال يُختزل للأسف في مقاييس سطحية تُروّج لها وسائل التواصل الاجتماعي ومؤسسات الإعلام التجاري. مقاييس غالبًا ما تُقصي التنوّع، وتُرسّخ صورة نمطية للجمال ترتكز على معايير متغيّرة تُحدّدها الموضة والإعلانات. غير أن الجمال الحقيقي لا يخضع لهذه التصنيفات، بل يتجلى في الفرادة، في الأصالة، في البساطة، وفي التناغم بين ما هو مرئي وما هو محسوس.

الجمال في الطبيعة نموذج خالد للاتساق بين الفوضى والنظام، بين التلقائية والدقة. الشروق، الغروب، تفتح الأزهار، خرير الماء، شكل الجبال، وحتى صمت الصحراء، كلها مشاهد تكشف للعين المتأملة عمق الجمال الذي لا يحتاج إلى تحسينات أو تدخل بشري. إنه الجمال الخام، النقي، الذي يُحيي الإحساس، ويُبهج النفس، ويعيد لها اتّصالها بالكون.

أما الجمال في الفن، فهو الشكل المجسّد للخيال. في اللوحة، في النحت، في الموسيقى، في المسرح، تنبعث رؤية الجمال كقيمة مضافة للوجود الإنساني، تُحاكي الحواس وتخاطب الروح. الفنون عبر العصور كانت الوسيلة التي من خلالها عبّر الإنسان عن شغفه بالجمال، سواء في المعابد الإغريقية، أو في زخارف المساجد الإسلامية، أو في سيمفونيات بيتهوفن. فالفن والجمال رفيقان في مسيرة التعبير الإنساني، لا ينفصل أحدهما عن الآخر.

في المقابل، لا يمكن الحديث عن الجمال دون الإشارة إلى البعد الجمالي في الأخلاق. الصدق، الإحسان، الكرم، الوفاء، كلها أخلاقيات تتجلّى كقيم جمالية. فكما أن العين تُسرّ بجمال الوجه، فإن القلب يُسعد بجمال الفعل. هذا النوع من الجمال يتجاوز اللحظة ويخلّد صاحبه في ذاكرة من عرفوه. لذلك، كان العرب قديماً يمدحون الرجل لا بجماله الجسدي، بل بجمال خُلقه ومروءته، وكانوا يقولون: “فلان جميل النفس”.

ولعلّ من أكثر أنواع الجمال صعوبة في التعريف، هو جمال الروح. ذلك الجمال الذي لا يُرى بالعين، ولا يُقاس بالمقاييس المتعارف عليها، بل يُشعَر به في اللقاء، في الحديث، في الصمت حتى. الشخص الذي يترك فينا أثراً طيباً دون أن نفهم كيف ولماذا، هو في الغالب من أصحاب الجمال الروحي. إنه جمال يتسلل بهدوء، ولا يُنسى بسهولة، لأنه يرتبط بالراحة، بالاطمئنان، بالإلهام.

من اللافت أن المجتمعات على اختلافها عبّرت عن مفهوم الجمال بطرق متنوعة، مما يعكس التأثير الثقافي والاجتماعي في تكوين هذه الفكرة. في بعض الثقافات، يُعتبر اللون الداكن للبشرة علامة جمالية، بينما في أخرى يكون العكس. في بعض الشعوب، يُنظر إلى السمنة على أنها مظهر للرخاء والجاذبية، بينما تُفضّل الرشاقة في غيرها. هذا التنوع يدل على أن الجمال ليس قيمة مطلقة، بل هو مفهوم مرن يخضع لسياق الزمان والمكان.

ورغم ذلك، هناك جمال إنساني مشترك، يتفق عليه الناس بفطرتهم، كجمال الطفولة، وجمال البراءة، وجمال الابتسامة الصادقة. هذه الأشكال من الجمال لا تحتاج إلى تفسير، لأنها تُلامس شيئًا جوهريًا في الإنسان، يتجاوز اللغة والثقافة والعرق.

في النهاية، الجمال لا يمكن أن يُحبس في صورة، ولا أن يُقاس بمعيار واحد. إنه تجربة شخصية، ذاتية، ووجودية، تعكس رؤية الفرد للعالم ولنفسه. من يملك قلبًا جميلًا، يرى الجمال في كل شيء؛ في الفجر، في الناس، في الحروف، في المواقف، حتى في الألم أحيانًا. والجمال لا يُقتنى، بل يُمارس ويُحيا ويُزرع في النفوس.

المراجع:

1. أفلاطون، “الجمهورية”، ترجمة حنا خباز، المؤسسة العربية للدراسات.

2. جبران خليل جبران، “رمل وزبد”، دار الجيل، بيروت.