تعدد المهام وتأثيره على الإنتاجية

هل يُساعدنا تعدّد المهام في إنجاز المزيد من الأعمال؟

تُعتبر مسألة تعدد المهام واحدة من الموضوعات الشائكة التي تتناقض فيها الآراء بين العلماء والخبراء. ففي الوقت الذي يظن فيه البعض أن أداء عدة مهام في الوقت ذاته يساهم في تحسين الإنتاجية وزيادة الإنجازات، يرى آخرون أن هذه الطريقة قد تؤدي إلى تدهور الأداء وتسبب التشتت الذهني، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تراجع الكفاءة. لكن كيف يمكننا أن نفهم هذه الظاهرة بشكل أعمق؟ هل فعلاً يمكن لتعدد المهام أن يزيد من إنتاجيتنا، أم أنه مجرد وهم يضللنا عن الأداء الأمثل؟

1. التعريف بتعدد المهام

تعدد المهام هو عملية القيام بعدة مهام أو أنشطة في وقت واحد. قد يتضمن ذلك الرد على رسائل البريد الإلكتروني أثناء إجراء مكالمة هاتفية، أو العمل على تقرير أثناء حضور اجتماع عبر الإنترنت. يتطلب تعدد المهام استخدام قدراتنا العقلية والإدراكية بشكل مستمر، حيث يتعين على الدماغ الانتقال بسرعة بين المهام المختلفة. يُعتقد أن هذا النوع من العمل يوفر لنا الوقت ويزيد من قدرتنا على إنجاز المهام بشكل أسرع.

2. الآراء المؤيدة لتعدد المهام

هناك العديد من الأشخاص الذين يعتقدون أن تعدد المهام هو الطريقة المثلى لزيادة الإنتاجية. بالنسبة لهؤلاء، يبدو أن العمل على أكثر من مهمة في الوقت نفسه هو الطريق الأمثل لتحقيق المزيد في وقت أقل. يظهر هذا بشكل خاص في بيئات العمل السريعة، مثل بيئات الشركات أو عند العمل في مشاريع متعددة.

يُعتقد أن استخدام تعدد المهام يسمح للأفراد بتحقيق التوازن بين متطلبات العمل المختلفة. فمثلًا، قد يعمل شخص ما على كتابة تقرير في حين يقوم أيضًا بالتواصل مع العملاء أو الرد على استفسارات الفريق. في ظل هذه الطريقة، يبدو أن الوقت المستغل في كل مهمة يقل، مما يؤدي إلى زيادة عدد المهام المنجزة في يوم العمل الواحد.

3. دراسة الأبحاث والحقائق العلمية

بينما يبدو تعدد المهام وكأنه أداة فعّالة لزيادة الإنتاجية، فإن الدراسات العلمية تشير إلى أن الدماغ البشري ليس مُصمّمًا لتعدد المهام بطريقة فعّالة. أظهرت الأبحاث أن تعدد المهام قد يؤدي في الواقع إلى تقليل الإنتاجية، وذلك بسبب التشتت العقلي. فعندما يقوم الشخص بانتقال سريع من مهمة إلى أخرى، يتعين عليه إعادة ضبط عقله وتركيزه باستمرار، مما يؤدي إلى انخفاض الكفاءة.

وفقًا لعدة دراسات في علم الأعصاب، يفتقر الدماغ البشري إلى القدرة على معالجة أكثر من مهمة معقدة في وقت واحد. عوضًا عن ذلك، يتحول الدماغ بسرعة بين المهام، ويؤدي ذلك إلى فقدان جزء كبير من الوقت في إعادة التوجيه العقلي والتركيز. في دراسة نُشرت في “مجلة علم النفس العصبي” في عام 2013، تم إثبات أن الأشخاص الذين يشاركون في تعدد المهام لا يُظهرون أداءً أفضل من أولئك الذين يركزون على مهمة واحدة في كل مرة. في الواقع، الأشخاص الذين حاولوا القيام بمهام متعددة في وقت واحد أظهروا انخفاضًا في سرعة إتمام المهام وجودتها.

4. تكلفة تعدد المهام على الدماغ

عندما نحاول القيام بعدة مهام في وقت واحد، يواجه الدماغ تحديات متعددة. فكلما انتقلنا بين المهام، يتطلب ذلك وقتًا لتغيير التركيز. هذه “التكلفة الذهنية” تؤثر على فعالية الدماغ في إنجاز الأعمال. تُظهر الأبحاث أن الشخص الذي يبدل بين المهام يفقد حوالي 40% من وقته في التبديل بين المهمة والأخرى. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي ذلك إلى إجهاد ذهني، مما يجعل الشخص أكثر عرضة للأخطاء أو الإغفال.

إن تعدد المهام يساهم أيضًا في زيادة مستويات التوتر. التبديل المستمر بين المهام يمكن أن يرفع من مستويات القلق والإجهاد، مما يؤثر سلبًا على الصحة العامة ويقلل من القدرة على التفكير الواضح. بينما قد يعتقد البعض أن هذه الطريقة تساعد على إنجاز أكثر، إلا أنها قد تؤدي إلى تراجع جودة العمل وزيادة الأخطاء.

5. ما الذي يحدث عندما نركز على مهمة واحدة؟

في المقابل، يشير الكثير من الخبراء إلى أن التركيز على مهمة واحدة في كل مرة يؤدي إلى زيادة الإنتاجية والجودة بشكل أكبر. عندما يركز الشخص على عمل واحد فقط، يستطيع أن يضع كل تركيزه على المهمة المحددة، ما يسمح له بتقديم أفضل أداء وأكثر دقة. كما أن هذه الطريقة تمنح الدماغ الفرصة للغوص في عمق الموضوع، مما يسهم في إنتاج حلول أكثر إبداعية وفعالية.

التركيز على مهمة واحدة يقلل من التشتت الذهني، مما يساعد على تحسين التفكير النقدي واتخاذ القرارات. علاوة على ذلك، يرتبط التركيز المستمر بزيادة الشعور بالإنجاز والتحفيز الذاتي، مما يزيد من الدافع للاستمرار في العمل.

6. تعدد المهام في سياق الأعمال الحديثة

في بيئة الأعمال الحديثة، التي غالبًا ما تكون مليئة بالضغط والتحديات المتزايدة، قد يُنظر إلى تعدد المهام على أنه ضرورة لضمان إنجاز أكبر عدد من المهام في وقت أقل. ومع ذلك، فإن العديد من الشركات بدأت تدرك أهمية التركيز على المهام الرئيسة. في الواقع، يلاحظ الموظفون في الشركات الحديثة أنه من الأفضل تخصيص وقت محدد لكل مهمة على حدة.

تقنيات إدارة الوقت مثل “تقنية بومودورو”، التي تركز على العمل لمدة 25 دقيقة ثم أخذ استراحة قصيرة، هي مثال على كيفية تعزيز الإنتاجية من خلال التركيز على مهمة واحدة في كل مرة. تتجنب هذه الطريقة التشتت الناتج عن تعدد المهام، بينما تعزز من إنتاجية الفرد في الوقت نفسه.

7. استراتيجيات بديلة لزيادة الإنتاجية

على الرغم من أن تعدد المهام قد يبدو جذابًا في البداية، فإن هناك العديد من الاستراتيجيات البديلة التي يمكن أن تساعد على تحسين الإنتاجية بشكل أكثر فعالية. إحدى هذه الاستراتيجيات هي “التقسيم الزمني”، حيث يقوم الفرد بتخصيص فترات زمنية محددة لكل مهمة. يمكن أن يؤدي تقسيم اليوم إلى فترات عمل محددة مع فترات استراحة إلى تحسين الأداء العام.

كذلك، يمكن استخدام تقنيات مثل “التصفية الذهنية” أو “الاسترخاء”، التي تساعد على تجديد الطاقة العقلية والتركيز بعد فترة من العمل المكثف. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للأفراد تحسين مهاراتهم في إدارة الوقت من خلال استخدام الأدوات التكنولوجية مثل التطبيقات الخاصة بإدارة المهام أو تقنيات التذكير.

8. الخلاصة

في الختام، على الرغم من أن تعدد المهام قد يبدو في البداية طريقة فعّالة لزيادة الإنتاجية، إلا أن الدراسات العلمية تشير إلى أنه في الواقع يمكن أن يؤدي إلى انخفاض الأداء وزيادة التشتت الذهني. لذلك، فإن التركيز على مهمة واحدة في كل مرة هو غالبًا الحل الأكثر فعالية. من خلال تبني استراتيجيات مثل تقسيم الوقت والتركيز على جودة العمل بدلاً من الكمية، يمكن للأفراد تحقيق مستوى أعلى من الإنتاجية والعمل بكفاءة أكبر.