في بداية الحديث عن تطور الأغنية المغربية، يتجلى الانتعاش اللافت الذي عرفتها بفضل التنوع الفني والثقافي، حيث تجتمع بين العصرية والشعبية لتخلق مشهدًا موسيقيًا متنوعًا وغنيًا. يعود هذا النهضة إلى الإذاعة المغربية، التي تعد المحرك الرئيسي والوسيلة الأكثر انتشارًا لنقل هذا التراث الغنائي الفريد.
تتميز الأغنية المغربية بأنها تحمل في طياتها موروثًا غنائيًا يمتد إلى الخمسينيات من القرن الماضي، مع تنوع يعكس جمال وعمق الموسيقى المغربية. إن هذا التراث يشمل قطعًا غنائية عصرية تتجاوز حدود الزمان، إلى جانب فنون أصيلة تعكس جوانب متعددة من الهوية المغربية.
تأتي في المقدمة لهذا التراث الغنائي مجموعة من الأغاني التي سُجلت في الثلاثينيات والأربعينيات على أسطوانات بسرعة 78 لفة، ممثلة في حصص الطرب الأندلسي والملحون والغرناطي. يليها موروث الفنانين المغاربة مثل الحسين السلاوي وزهرة الفاسية، اللذين سهموا بشكل كبير في إثراء التراث الفني المغربي.
مع بداية الخمسينيات، ظهر الشريط المغناطيسي كمكمل حديث للعمل الإذاعي، وقامت الإذاعة المغربية بتوثيق هذا المخزون الفني الغنائي. يتضح توزيع المخزون الصوتي الغنائي المغربي حتى نوفمبر 2005، حيث يشمل آلاف الأغاني العصرية والأندلسية والملحون والغرناطية، بالإضافة إلى آلاف الأغاني الأمازيغية التي تعبر عن تراث الثقافة الأمازيغية.
أما بالنسبة لأقدم الأغاني المحفوظة في خزانة الإذاعة المغربية، فتعود إلى نوفمبر 1950، حيث سُجلت قصيدة “أضحى التنائي بديلًا” من إبداع ابن زيدون. قام بتلحين وغناء هذه القصيدة الموسيقار الراحل أحمد البيضوي، الذي كان يعزف لراديو المغرب.
تأخذنا رحلة في زمن الأغاني الذهبية إلى سنوات الخمسينيات والستينيات، حيث شهدت الأغنية المغربية رواجًا لا مثيل له. تأثرت بظهور شركات الإنتاج، وحققت شهرة واسعة من خلال تسجيلات لفنانين مغاربة وفرنسيين. تُذكر أغنية “بارد وسخون” كواحدة من هذه الأغاني الرائعة، التي نقلت كلمات الشاعر الكبير علي الحداني ولحنها حسن القدميري، وغناها الفنان الراحل محمد الحياني.
وفي سياق فني متميز، يبرز الفنان الشعبي الكبير حسن العباسي، الذي ترك إرثًا فنيًا يزيد عن 60 أغنية مغربية شعبية. ولد في مراكش في 1938، حيث انخرط في المعهد الموسيقي سنة 1952، ودرس تحت إشراف أساتذة بارزين في المجال الموسيقي المغربي.
توثيقه الرسمي بالمعهد الموسيقي شمل تعلم فنون الموسيقى العربية والتدوين الموسيقي، وكان له اهتمام خاص بالسينما والأفلام المصرية الغنائية. استمر في إثراء المشهد الفني المغربي حتى رحيله في نوفمبر 2013.
إن حياة الفنان حسن العباسي وعطاؤه الفني تمثلان جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الأغنية المغربية، ويظل إرثه يستمر في إلهام الأجيال الجديدة والمساهمة في ترسيخ تاريخ الفن في المغرب.
المزيد من المعلومات
بالتأكيد، يمكننا استكمال النظرة الشاملة إلى تطور الأغنية المغربية والفنانين المهمين الذين ساهموا في إثراء هذا التراث الفني:
بعد فترة الخمسينات والستينات، استمرت الأغنية المغربية في تجذير نفسها في قلوب المستمعين. ظهرت فرق موسيقية وفنانون جدد، مما أضاف تنوعًا إلى المشهد الفني. من بين الفرق المهمة التي نشأت في هذه الفترة كانت “ناس الغيوان”، التي قدمت مزيجًا فريدًا من الموسيقى الأمازيغية والروحية.
في عصر الثمانينات والتسعينات، عاشت الأغنية المغربية تحولات هامة مع ظهور أنماط موسيقية جديدة وتأثيرات عالمية. بدأت الأغاني الشبابية والموسيقى البوب تأخذ مكانها بين الجمهور، مع فنانين مثل “نجاة الصغيرة” و”عبد الحفيظ الدوزي” اللذين قدموا إسهامات كبيرة.
كما يجدر بالذكر أن الأغنية المغربية لم تقتصر على اللغة العربية فقط، بل شملت أيضًا اللغة الأمازيغية. فقد كان للفنانين الأمازيغ مساهمات فعّالة في تقديم تجارب فنية تعبر عن غنى ثقافتهم، مثل الفنانة “نايمة سامحاي” و”عبد العزيز الستاتي”.
وفي سياق الأغنية الشعبية، يبرز الفنان “عبد الوهاب الدكالي”، الذي ترك بصمة قوية في هذا النوع من الموسيقى. كان له دور كبير في إحياء الفولكلور المغربي والحفاظ على التراث الشعبي.
يجسد كل هؤلاء الفنانون والفرق وغيرهم جوانب مختلفة من الثراء الفني المغربي، حيث يمتزج التقليد بالحداثة والشعبية بالعصرية، مما يمنح المشهد الفني في المغرب تنوعًا وجاذبية للجماهير المحلية والعالمية.