تطعيم الدرن للمواليد: الوقاية المبكرة من مرض قاتل

مقدمة

يعد مرض الدرن، أو ما يُعرف أيضًا بالسل (Tuberculosis)، من بين أكثر الأمراض المعدية انتشارًا وخطورة على مستوى العالم، خصوصًا في الدول ذات الموارد المحدودة. يمثل تطعيم الأطفال حديثي الولادة ضد هذا المرض خطوة محورية في الوقاية من إصابات قد تكون قاتلة أو تؤدي إلى إعاقات مزمنة. يُعرف هذا اللقاح باسم لقاح عصية كالميت غيران (BCG: Bacillus Calmette–Guérin)، وهو واحد من أقدم اللقاحات المستخدمة عالميًا، ولا يزال يُوصى به بشدة في المناطق التي يتوطن فيها مرض السل.

تعريف مرض الدرن

الدرن هو عدوى بكتيرية مزمنة تسببها بكتيريا Mycobacterium tuberculosis، وتنتقل عادة عن طريق الهواء عندما يسعل أو يعطس شخص مصاب بالعدوى. يؤثر المرض أساسًا على الرئتين، لكنه يمكن أن يصيب أعضاء أخرى مثل العظام، الجهاز العصبي المركزي، الغدد الليمفاوية، والجهاز البولي. يتطور المرض غالبًا بشكل بطيء، مما يصعب أحيانًا اكتشافه في مراحله الأولى.

يُعد الأطفال حديثو الولادة من الفئات عالية الخطورة للإصابة بالدرن، إذ قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة مثل الدرن السحائي أو السل المنتشر، وهما حالتان تحملان معدلات وفاة عالية، أو تسبب إعاقات دائمة إن لم تُعالجا مبكرًا.

ماهية تطعيم الدرن BCG

لقاح BCG هو لقاح حي مُضعَّف، يعتمد على سلالة مُعدّلة من Mycobacterium bovis، وهي سلالة قريبة من البكتيريا المسببة للسل البشري. يعمل اللقاح عن طريق تحفيز الجهاز المناعي للتعرف على العدوى ومهاجمتها فور دخولها الجسم. وعلى الرغم من أن هذا اللقاح لا يمنع الإصابة بالسل بشكل كامل، فإنه يُقلل بشكل كبير من فرص الإصابة بالأشكال الخطيرة منه، خاصة لدى الأطفال.

أهمية تطعيم الدرن للمواليد

يُعد تطعيم الدرن من التطعيمات الأساسية التي تُعطى للرضع خلال الأيام الأولى من حياتهم في كثير من الدول، خصوصًا في المناطق التي ينتشر فيها المرض. تتجلى أهمية هذا التطعيم في النقاط التالية:

• الوقاية من الأشكال الخطيرة للسل: مثل السل المنتشر والسل السحائي، وهما أكثر شيوعًا وخطورة لدى الأطفال دون سن الخامسة.

• تعزيز مناعة الطفل ضد البكتيريا المسببة للدرن: مما يهيئ الجهاز المناعي للتصدي المبكر في حال التعرض للعدوى.

• الحد من تفشي المرض في المجتمعات التي ينتشر فيها الدرن: فالتطعيم يشكل جزءًا من استراتيجية الصحة العامة لاحتواء العدوى.

جدول تطعيم الدرن

غالبًا ما يتم إعطاء لقاح BCG عند الولادة أو في الأسابيع الأولى من عمر الطفل. يختلف توقيت التطعيم حسب السياسات الصحية المحلية، لكن الجدول العام في الدول التي تعتمد التطعيم يشبه التالي:

فعالية اللقاح

تختلف فعالية لقاح الدرن BCG حسب الموقع الجغرافي ونسبة التعرض للعدوى. ومع ذلك، فقد أظهرت دراسات عالمية أن اللقاح فعال بنسبة تصل إلى 80% في الوقاية من الدرن السحائي والدرن المنتشر لدى الأطفال. كما تشير بعض الأدلة إلى أن المناعة التي يوفرها اللقاح قد تستمر لعدة سنوات، وأحيانًا لعقود، مع أنها قد تضعف بمرور الوقت.

ورغم أن اللقاح لا يمنع دائمًا الإصابة بالسل الرئوي، إلا أن الحماية الجزئية التي يوفرها كافية لتقليل حدة المرض، وهو ما ينعكس إيجابيًا على معدلات الوفاة والمضاعفات.

الآثار الجانبية للتطعيم

مثل أغلب اللقاحات، فإن BCG آمن إلى حد كبير، لكنه قد يُسبب بعض الآثار الجانبية الطفيفة، منها:

• احمرار وتورم في موضع الحقن: قد يتطور لاحقًا إلى بثرة صغيرة تتقرح ثم تلتئم مخلفة ندبة دائمة.

• تورم الغدد الليمفاوية القريبة من مكان الحقن.

• خراجات نادرة جدًا في موقع الحقن.

• ردود فعل موضعية مفرطة أو تهيج موضعي.

وتبقى هذه الأعراض غير مقلقة في الغالب، ولا تتطلب تدخلًا علاجيًا إلا في حالات نادرة. الجدير بالذكر أن حدوث الندبة في موضع الحقن يُعتبر علامة على نجاح التلقيح.

موانع التطعيم بلقاح الدرن

رغم أهمية لقاح الدرن، إلا أن هناك بعض الحالات التي يُمنع فيها إعطاؤه:

• الأطفال المصابون بنقص المناعة الخلقي أو المكتسب مثل مرضى نقص المناعة الأولية أو المصابين بفيروس HIV.

• الأطفال الذين يخضعون لعلاج كيميائي أو يتناولون أدوية مثبطة للمناعة.

• حديثو الولادة الذين يعانون من مرض شديد أو ارتفاع حرارة شديد.

• الأطفال الذين وُلدوا لأمهات تلقين أدوية مثبطة للمناعة خلال الحمل.

يجب على الأطباء اتخاذ القرار بشأن تطعيم الطفل وفقًا لحالته الصحية العامة وتاريخ العائلة الطبي.

السياسة العالمية لتطعيم الدرن

تعتمد منظمة الصحة العالمية (WHO) تطعيم الدرن كجزء من البرامج الموسعة للتطعيم في الدول التي يكون فيها الدرن مستوطنًا. وتوصي بإعطاء الجرعة الأولى عند الولادة في هذه الدول، بينما لا تُوصي بالتطعيم الروتيني في الدول ذات معدلات الإصابة المنخفضة.

في دول مثل الهند، باكستان، مصر، السودان، اليمن، والعديد من دول أفريقيا وآسيا، يُعتبر التطعيم إلزاميًا. أما في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، فإن التطعيم يُعطى فقط في حالات خاصة لفئات معينة مهددة بالخطر.

أثر التطعيم في الحد من انتشار الدرن

تشير الإحصائيات إلى أن انتشار تطعيم BCG في دول مثل البرازيل، الصين، وإندونيسيا أدى إلى تراجع كبير في معدلات الدرن السحائي بين الأطفال، ومعدل وفيات أقل بسبب الأشكال الخطيرة للسل. ففي دولة مثل فيتنام، انخفضت نسبة إصابة الأطفال دون الخامسة بالدرن الحاد بنسبة تزيد عن 70% بعد اعتماد برنامج شامل لتطعيم BCG.

ويُسهم التطعيم أيضًا في تقليل العبء على أنظمة الرعاية الصحية العامة، من خلال الحد من الحالات التي تتطلب علاجًا طويلًا ومعقدًا.

متى تظهر فعالية اللقاح؟

بعد تلقي اللقاح، تبدأ الاستجابة المناعية في التكون تدريجيًا خلال أسبوعين إلى ستة أسابيع، وتكتمل عادة بعد مرور شهرين. يظهر موضع التطعيم على شكل نتوء أو بثرة صغيرة تتطور لاحقًا إلى قرحة سطحية، قبل أن تلتئم وتترك ندبة واضحة في معظم الحالات.

ندبة لقاح الدرن تعتبر مؤشرًا تقليديًا على أن التطعيم تم بنجاح، ولكن غيابها لا يعني دائمًا أن اللقاح لم يكن فعالًا، إذ أن بعض الأطفال لا تظهر عليهم علامات موضعية واضحة رغم فعالية التطعيم.

التطعيم المكرر: هل هو ضروري؟

بعض الدول كانت تُوصي في السابق بتطعيم BCG على جرعتين، واحدة عند الولادة وأخرى في سن المدرسة، لكن منظمة الصحة العالمية لم تعد تُوصي بذلك نظرًا لغياب الدليل الكافي على فعالية الجرعة الثانية. حاليًا، يُعتبر تطعيم BCG مرة واحدة عند الولادة كافيًا لمعظم الأطفال.

الفرق بين تطعيم الدرن وتفاعل مانتو

كثير من الأهل يخلطون بين لقاح الدرن واختبار مانتو (Mantoux test)، وهو اختبار جلدي يُستخدم لتحديد ما إذا كان الشخص قد تعرض للبكتيريا المسببة للسل. هذا الاختبار لا يُستخدم للتطعيم، بل لتشخيص الإصابة أو التعرض للبكتيريا. غالبًا ما يُستخدم مانتو قبل إعطاء BCG في بعض الحالات، خصوصًا للأطفال الأكبر سنًا أو البالغين.

التأثيرات طويلة المدى لتطعيم الدرن

بالإضافة إلى الوقاية المباشرة، أظهرت بعض الدراسات أن تطعيم BCG قد يُعزز مناعة الجسم ضد أنواع أخرى من العدوى، عبر ما يُعرف بـ”المناعة المدربة” (trained immunity)، وهي ظاهرة تشير إلى تحسين استجابة الجسم المناعية بشكل عام. ومع أن هذه الفرضية لا تزال قيد البحث، فإنها قد تُفسر سبب انخفاض معدلات وفيات الرضع في بعض المناطق بعد اعتماد التطعيم.

الخلاصة

تطعيم الدرن للمواليد هو إجراء صحي أساسي وفعال في مكافحة واحد من أقدم وأكثر الأمراض المعدية فتكًا في التاريخ البشري. ورغم التطورات الطبية الحديثة، لا يزال BCG يشكل ركيزة استراتيجية في الحماية من السل، خصوصًا في المراحل العمرية المبكرة. إن الاستثمار في برامج تطعيم شاملة يمثل خيارًا صحيًا واقتصاديًا في آنٍ واحد، لتقليل عبء المرض وتحسين فرص النجاة في المجتمعات المهددة.

المصادر

1. World Health Organization. BCG vaccine: WHO position paper. 2018. https://www.who.int

2. Centers for Disease Control and Prevention (CDC). Tuberculosis (TB): BCG Vaccine. https://www.cdc.gov/tb