كيف تتخلّص من الشعور بالغيرة وتُسيطر على مشاعرك؟

تُعد الغيرة من أكثر المشاعر الإنسانية تعقيدًا، فهي شعور داخلي ينبثق من مقارنة النفس بالآخرين، وقد تكون ناتجة عن الخوف من فقدان شيء مهم، أو الرغبة في امتلاك ما يمتلكه الآخرون. على الرغم من أن الغيرة شعور طبيعي في بعض السياقات، إلا أن استمرارها وتضخمها قد يؤدي إلى تدمير العلاقات، وتأجيج الصراعات الداخلية، وإعاقة التطور النفسي للفرد. فالسيطرة على هذا الشعور تُعد من المهارات العاطفية المهمة التي تحتاج إلى وعي، تدريب، وإعادة هيكلة للمعتقدات الذاتية.

أولًا: فهم طبيعة الغيرة وأسبابها النفسية

الغيرة ليست مشاعرًا عشوائية تنشأ دون مقدمات، بل تُعد استجابة داخلية لعوامل متعددة، أبرزها:

• التهديد الإدراكي: حيث يشعر الفرد أن مكانته أو محبته أو تقديره لدى الآخرين مهدد من طرف ثالث.

• انخفاض تقدير الذات: فالأشخاص الذين لا يشعرون بالكفاية أو لديهم نظرة سلبية تجاه أنفسهم، هم الأكثر عرضة للغيرة.

• المقارنة الاجتماعية: عند مقارنة النفس بالآخرين من حيث الجمال، النجاح، الذكاء أو العلاقات، تنشأ مشاعر الغيرة إذا شعر الفرد بالنقص أو الدونية.

• التجارب الطفولية: قد تكون الغيرة ناتجة عن مواقف سابقة منذ الطفولة، كالشعور بالإهمال أو تفضيل أحد الأشقاء على الآخر.

• البرمجة الاجتماعية والثقافية: في بعض المجتمعات، يتم تعظيم فكرة التنافس على الشريك أو النجاح، مما يرسّخ مشاعر الغيرة كأمر مقبول أو حتى ضروري.

ثانيًا: الآثار السلبية للغيرة

الغيرة المزمنة لا تؤثر فقط على صاحبها، بل تمتد لتلحق الضرر بالمحيط الاجتماعي والعاطفي، ومنها:

• تآكل الثقة في النفس وفي الآخرين.

• تفكك العلاقات العاطفية أو الزوجية نتيجة الشك والاتهامات المستمرة.

• فقدان التركيز والإنتاجية بسبب الانشغال بالمقارنات.

• الشعور المستمر بعدم الرضا عن النفس والحياة.

• القلق المزمن والاضطرابات النفسية المرتبطة بالحسد والكراهية.

ثالثًا: خطوات عملية للتخلص من الغيرة والسيطرة على المشاعر

1. الاعتراف بالمشكلة دون إنكار

أول خطوة للتحرر من الغيرة هي الاعتراف الصادق بوجودها. الإنكار يمنع الفرد من معالجتها، بينما الاعتراف يمنحه الوعي اللازم لفهم جذورها. فالإقرار لا يعني الضعف، بل هو بداية الشفاء.

2. تحليل مصدر الغيرة

يجب تحديد الحدث أو الشخص أو الموقف الذي أثار الشعور بالغيرة. هل هو النجاح المهني لصديق؟ علاقة عاطفية بين شخصين؟ تقدير تلقاه شخص آخر؟ من خلال هذا التحليل يمكن الوصول إلى السبب العميق مثل قلة الثقة بالنفس أو الشعور بالتهديد.

3. العمل على تقوية تقدير الذات

الشخص الواثق من نفسه أقل عرضة للغيرة. لذلك من الضروري:

• ممارسة التحدث الإيجابي مع الذات.

• رصد الإنجازات الشخصية مهما كانت صغيرة.

• وضع أهداف شخصية والعمل على تحقيقها بعيدًا عن مقارنات بالآخرين.

• الابتعاد عن البيئة السامة التي تحفز على المقارنات أو الانتقاص من الذات.

4. استبدال المقارنة بالتقدير

بدلًا من مقارنة النفس بالآخرين والشعور بالنقص، يمكن تدريب الذات على تقدير ما لدى الآخرين بإيجابية. النجاح، الجمال أو الحظ الجيد لدى الآخرين لا يُنقص من قيمة الفرد، بل يمكن أن يكون حافزًا للتطور. يمكن استبدال الأفكار السلبية مثل “أنا لا أملك ما لديه” بـ”أحترم جهده وأتمنى له مزيدًا من النجاح”.

5. ممارسة الامتنان اليومي

الامتنان يُعد من الأساليب النفسية القوية في مواجهة الغيرة. تخصيص دقائق يوميًا لكتابة ما يشعر الفرد بالامتنان حياله يعزز من الشعور بالرضا، ويخفف من التركيز على ما ينقصه. فكل إنسان يملك نعمًا قد لا يدركها إلا حين يتأملها.

6. الابتعاد عن المحفزات السلبية

في عصر التواصل الاجتماعي، أصبحت الغيرة تغذّى باستمرار من خلال الصور والمنشورات التي تعكس حياة مثالية. يُنصح بتقليل التعرض لهذه المحفزات، أو على الأقل تصفيتها بوعي من خلال إلغاء متابعة الحسابات التي تثير مشاعر النقص أو عدم الكفاية.

7. تعزيز الذكاء العاطفي

الذكاء العاطفي يتضمن القدرة على التعرف على المشاعر وتفكيكها والتعامل معها بوعي. من خلاله يتعلم الفرد أن يراقب مشاعره، يتعامل معها دون أن تدمره، ويحوّلها إلى طاقة إيجابية.

8. إعادة صياغة الأفكار

الغيرة كثيرًا ما تكون ناتجة عن أفكار غير واقعية أو مشوهة. على سبيل المثال، الاعتقاد بأن “نجاح الآخرين يعني فشلي” هو تفكير غير منطقي. لذلك من المهم استخدام تقنيات العلاج المعرفي السلوكي (CBT) التي تساعد على:

• تحديد الأفكار المشوهة.

• تحديها بمنطق عقلاني.

• استبدالها بأفكار صحية وداعمة.

9. تنمية المهارات الاجتماعية

في كثير من الحالات، الغيرة تنبع من الخوف من فقدان العلاقات أو المكانة الاجتماعية. من خلال تعزيز مهارات التواصل، وبناء علاقات صحية قائمة على الثقة والتفاهم، تقل حدة الغيرة لأن الفرد يشعر بالأمان العاطفي والانتماء.

10. تخصيص وقت للنمو الذاتي

كل دقيقة تُهدر في الغيرة يمكن أن تُستثمر في تنمية الذات. تعلم لغة جديدة، ممارسة رياضة، تحسين المهارات المهنية، التطوع، كلها وسائل لتحويل الانتباه من الخارج إلى الداخل، ومن المقارنة إلى النمو.

رابعًا: تقنيات سلوكية فعالة للتخلص من الغيرة

إلى جانب التحليل النفسي، يمكن تطبيق مجموعة من الأساليب العملية والسلوكية يوميًا:

خامسًا: التوجه للعلاج النفسي إذا لزم الأمر

عندما تتحول الغيرة إلى مصدر دائم للقلق، أو تؤثر سلبًا على جودة الحياة والعلاقات، يصبح من المفيد اللجوء إلى مختص نفسي. العلاج السلوكي المعرفي، والعلاج التحليلي، والعلاج القائم على القبول والالتزام (ACT) من أنجع الأساليب في هذا المجال. الجلسات النفسية تساعد في تفكيك الجذور العميقة للغيرة، وتقديم استراتيجيات فعالة للتعامل معها.

سادسًا: التحلي بالصبر والمثابرة

التحرر من الغيرة ليس أمرًا يحدث بين ليلة وضحاها، بل هو عملية مستمرة من الملاحظة والتعديل. من الطبيعي أن تظهر نوبات غيرة من وقت لآخر، ولكن كلما أصبح الفرد أكثر وعيًا بنفسه وبما يحفز مشاعره، كلما زادت قدرته على السيطرة عليها وتوجيهها.

إن التعامل مع الغيرة يتطلب استعدادًا داخليًا لمواجهة النفس قبل مواجهة الآخرين. هو تمرين على النضج العاطفي، يتطلب الحزم والرحمة في آن واحد. وبالتحرر من هذه المشاعر السلبية، يفتح الفرد لنفسه أبواب الهدوء، والرضا، والعلاقات الصحية التي تُبنى على الثقة والتقدير.

المراجع:

• Salovey, P., & Mayer, J. D. (1990). Emotional intelligence. Imagination, Cognition and Personality

• Beck, A. T. (1976). Cognitive Therapy and the Emotional Disorders