الإطراء… كلمات سحرية تدغدغ الوجدان لكنها قد تدمره!

يُعتبر الإطراء من أقدم الوسائل التي استخدمها الإنسان للتأثير على الآخرين، لما له من قدرة استثنائية على اختراق الحواجز النفسية وملامسة الأنا البشرية. إنه ذلك الثناء اللطيف أو العبارات الجميلة التي تُقال بغرض التقدير أو المجاملة أو التقرب، وقد يتجلى بصيغ متعددة تبدأ من المديح الصريح وتصل إلى الإعجاب العابر أو التلميح الذكي. وعلى الرغم من أن الإطراء يمكن أن يكون محفزًا إيجابيًا، إلا أن له وجوهًا أخرى مظلمة، قد تكون مدمرة نفسيًا وسلوكيًا، خاصة عندما يُستخدم بغير وجه حق أو يتحول إلى وسيلة للتلاعب بالعقول والمواقف.

الإطراء في طبيعته النفسية والاجتماعية

الإطراء يُلامس بذكاء مشاعر التقدير الذاتية، ويُشبع رغبة الإنسان العميقة في الشعور بالقبول والتميز. تشير دراسات علم النفس الاجتماعي إلى أن الإنسان بطبيعته يميل إلى تقبل الثناء لأنه يعزز صورته الذاتية، ويزيد من ثقته بنفسه. هذا التفاعل الإيجابي يجعل الإطراء وسيلة فعالة في التواصل، تُستخدم لبناء العلاقات وتحسين بيئة العمل وحتى التمهيد للقرارات السياسية أو التجارية.

ولكن التعمق في البعد النفسي يكشف أن الإطراء في جوهره قد لا يكون دائمًا بريئًا. فعندما يُستخدم بشكل مفرط أو غير صادق، يصبح أداة لتضخيم الأنا، وقد يؤدي إلى تَكوُّن صورة ذاتية غير واقعية لدى المتلقي. هنا، يتحول الإطراء من عامل دعم نفسي إلى أداة إفساد تدريجي للمشاعر والسلوك.

الفرق بين الإطراء الصادق والإطراء المَرضي

يُفرّق علم النفس بين الإطراء الصادق الذي ينبع من ملاحظة حقيقية لسلوك إيجابي أو خصلة محمودة، وبين الإطراء المَرضي الذي يُقال بدافع المصلحة أو التملق أو حتى التلاعب. الإطراء الصادق يسهم في تحفيز الفرد وتعزيز ثقته بنفسه بطريقة بنّاءة، أما الإطراء المَرضي فيُعزز الأوهام، ويفسد التقييم الذاتي، ويزرع شعورًا زائفًا بالعظمة.

الإطراء المَرضي غالبًا ما يرتبط بما يُعرف بـ”النرجسية المكتسبة”، حيث يبدأ المتلقي في الإيمان الكامل بمديح الآخرين دون تمحيص، ويبدأ في بناء شخصيته وسلوكياته على توقعات الثناء فقط. ومع الوقت، ينفصل عن الواقع، ويصبح أكثر هشاشة تجاه النقد، مما يُؤدي إلى نتائج كارثية على المستوى الشخصي والاجتماعي والمهني.

الإطراء كسلاح نفسي

الإطراء ليس فقط وسيلة للتقرب أو التعبير عن الإعجاب، بل يُستخدم أحيانًا كسلاح نفسي في العلاقات الاجتماعية والعملية. يُطلق عليه البعض “القفاز المخملي للمخادع”، لأنه يُخفي خلف نعومته نوايا خبيثة أو مصلحية. في بيئات العمل، يُستخدم الإطراء المبالغ فيه أداة للترقي أو كسب الدعم، حتى لو على حساب الحقيقة. في العلاقات الشخصية، يُستخدم لإضعاف الطرف الآخر، وزرع التبعية العاطفية، حيث يبدأ الشخص في الاعتماد على الإطراء كمصدر لتقديره الذاتي.

وتُظهر التجارب النفسية أن الأشخاص الذين يتعرضون بشكل متكرر للإطراء غير الصادق، يصبحون أكثر عرضة للانقياد، وأقل قدرة على التمييز بين النقد البنّاء والتقليل من الشأن، مما يُنتج نماذج من الشخصيات المتقلبة والضعيفة أمام الضغط الاجتماعي.

الإطراء وتشكيل السلوك الاجتماعي

في المجتمعات ذات البنى الثقافية الهرمية، يُعتبر الإطراء أداة بقاء سياسي واجتماعي. فكلما اقترب الفرد من مركز السلطة أو النفوذ، زاد تعرضه للإطراء الموجه، سواء من الرؤساء أو الزملاء أو حتى العامة. هذا النوع من الإطراء لا يُستخدم لتحفيز الأداء أو التعبير عن الامتنان، بل يُستثمر في بناء الولاءات الزائفة وتثبيت النفوذ.

هذه الظاهرة ليست حكرًا على الدول أو المؤسسات فحسب، بل تمتد إلى الحياة الاجتماعية، حيث يُمارس الإطراء لأغراض الزواج، الصداقة، وحتى في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. في هذه الحالات، يتحول الإطراء من فعل إنساني إلى سلعة متداولة، تفقد قيمتها الحقيقية، وتُستبدل بمفاهيم براقة لكنها جوفاء.

الإطراء والنرجسية الاجتماعية

النرجسية، باعتبارها سمة شخصية أو سلوكًا اجتماعيًا، تتغذى على الإطراء. في ظل الثورة الرقمية ووسائل الإعلام الاجتماعية، أصبح الإطراء وقودًا يغذي “الذات المتضخمة”، التي تبحث عن التفاعل والإعجاب أكثر من البحث عن المعنى الحقيقي أو القيمة الموضوعية. فتحت كل صورة تُنشر على الإنترنت، تنهال عبارات الثناء والمديح، بغض النظر عن مضمونها أو مغزاها.

هذا السلوك الجماعي يعزز “النرجسية الاجتماعية”، حيث يتم تقييم الذات وفقًا لردود الأفعال الرقمية، لا وفقًا للجهد أو القيم الأخلاقية أو المضمون الفعلي. ومع تكرار هذا النمط، تتراجع المعايير الاجتماعية، ويحل التملق محل التقدير، ويُستبدل الإنجاز الحقيقي بالصورة المزينة والمديح المزيف.

الأثر التربوي للإطراء

في المجال التربوي، يُعد الإطراء أداة ذات حدين. فبينما يُستخدم لتشجيع الأطفال وتحفيزهم، يمكن أن يؤدي الإفراط فيه إلى نتائج عكسية. فالأطفال الذين يتلقون مدحًا مستمرًا دون أساس واقعي، ينشؤون بشخصيات هشة، لا تتقبل النقد، وتُفرط في تقدير الذات. وقد يتوقفون عن تطوير أنفسهم، معتقدين أن ما هم عليه هو الكمال بعينه.

الأسلوب الأمثل في هذا السياق هو المديح المشروط، الذي يُبنى على إنجاز واقعي أو سلوك إيجابي قابل للقياس. فبدلًا من قول “أنت عبقري”، يُفضل قول “لقد أحببت طريقتك في حل هذه المسألة”، مما يساعد الطفل على الربط بين الجهد والنتيجة، ويعزز مفاهيم العمل والانضباط بدلاً من الاتكال على الإطراء.

أثر الإطراء على العلاقات العاطفية

في العلاقات العاطفية، قد يبدو الإطراء عنصرًا جذابًا، ومصدرًا للسعادة والشعور بالتقدير، لكنه قد يكون أيضًا مصدرًا للخلل وعدم التوازن. فحين يُستخدم الإطراء لبناء تعلق غير صحي، يصبح الفرد الآخر مهووسًا بالحصول على الثناء، ويبدأ في تكييف تصرفاته ليس بناءً على ما يريد، بل بناءً على ما يُرضي الطرف الآخر.

الإطراء هنا يتحول إلى سلسلة من التوقعات المرهقة، ويُفقد العلاقة صدقها وتوازنها، إذ تُصبح قائمة على تزييف المشاعر والتصنع. والأخطر، أن الطرف المُطري قد يستخدمه كسلاح لإرضاء غروره أو السيطرة على شريكه، مما يُفرغ العلاقة من معناها ويحولها إلى مسرح للتلاعب العاطفي.

الإطراء في الثقافات المختلفة

تختلف مكانة الإطراء من ثقافة إلى أخرى. ففي بعض الثقافات يُعتبر الإطراء شكلًا من أشكال الأدب، ومن غير اللائق رفضه أو التشكيك فيه، بينما في ثقافات أخرى يُنظر إلى الإطراء بشك وريبة، ويُفضل التعبير عن التقدير من خلال الأفعال لا الأقوال.

في الثقافات العربية، يُشكّل الإطراء جزءًا مهمًا من النسيج الاجتماعي، ويُستخدم في الترحيب، والمديح، والمناسبات الاجتماعية، وحتى في التفاوض. ولكن هذا الاستخدام الواسع قد يُفضي أحيانًا إلى الابتذال وفقدان المعنى، خاصة حين يُستخدم لأغراض النفاق أو التملق.

الجدول: الفرق بين الإطراء الإيجابي والإطراء السلبي

ختام علمي

يُعد الإطراء من الظواهر الاجتماعية المعقدة التي تتداخل فيها العاطفة مع السلوك، والمجاملات مع المصلحة، والصدق مع التملق. ورغم قدرته على تعزيز الروابط الاجتماعية وتحفيز الأداء، إلا أن سوء استخدامه قد يُنتج آثارًا نفسية وسلوكية مدمرة. التعامل الحصيف مع الإطراء، والقدرة على تمييزه، والتوازن بين القبول والشك، تُعد من علامات النضج النفسي والاجتماعي.

ينبغي للمجتمعات أن تُعيد تقييم ممارساتها المتعلقة بالإطراء، وتدعم ثقافة النقد البناء، وتشجيع الإنجاز الحقيقي بدلًا من اللهاث وراء العبارات المنمقة. فالكلمات، وإن بدت بريئة أو لطيفة، قد تكون أكثر سُمّية من أي فعل مباشر إذا لم تُستخدم بمسؤولية وصدق.

المراجع:

1. Leary, M. R. (2007). The Curse of the Self: Self-Awareness, Egotism, and the Quality of Human Life. Oxford University Press.

2. Baumeister, R. F., & Bushman, B. J. (2013). Social Psychology and Human Nature. Cengage Learning.