مم يتكون العطر: تركيبة العطور بين الفن والكيمياء

مقدمة

يُعتبر العطر من أقدم وأرقى الوسائل التي استخدمها الإنسان للتعبير عن ذاته، وجماله، ومكانته. فمنذ العصور القديمة، ارتبط استخدام العطور بالطقوس الدينية، والعلاجات الطبية، والتعبير عن الجمال والترف، وامتدت أهميته إلى يومنا هذا، ليصبح صناعة عالمية متقدمة تجمع بين الفن والعلم والكيمياء. ومع أن تجربة العطر ترتبط بالحس والشعور والذكريات، فإن تكوينه يستند إلى بنية علمية دقيقة تدمج مركبات طبيعية وصناعية بنسب محسوبة بعناية فائقة.

يتكوّن العطر من مكونات رئيسية تشمل الزيوت العطرية، والكحول، والماء، بالإضافة إلى مثبتات وروائح وسطية وأخرى علوية. لكن تكوين العطر لا يقتصر فقط على دمج مكونات، بل يعتمد على هيكل معقد من الطبقات والعناصر التي تخلق تجربة حسية متكاملة. في هذا المقال، سنغوص في أعماق صناعة العطور، لنكشف ما وراء روائحها الفاتنة، وما تخفيه زجاجة العطر من علم، ودقة، وإبداع.

أولاً: البنية الأساسية للعطر

1. الزيوت العطرية (المكونات العطرية الأساسية)

الزيوت العطرية تشكل جوهر العطر، وهي المكونات التي تعطي العطر طابعه الفريد والمميز. يمكن أن تكون هذه الزيوت مشتقة من مصادر طبيعية أو مركبة صناعيًا. تختلف طبيعة هذه الزيوت بين الزهور، والفاكهة، والتوابل، والأخشاب، والراتنجات، وحتى العناصر الحيوانية (في بعض العطور الكلاسيكية).

• المصادر الطبيعية:

  • نباتية: مثل زيت الورد، وخلاصة الياسمين، وزيت البرغموت.

  • خشبية: مثل خشب الصندل، والأرز.

  • راتنجية: مثل اللبان والمِرّ.

  • حمضية: مثل البرتقال، والليمون، والجريب فروت.

  • بهارات: مثل القرفة، وجوزة الطيب، والقرنفل.

• المصادر الحيوانية (نادراً ما تُستخدم اليوم لصعوبات أخلاقية وقانونية):

  • المسك الطبيعي: المستخرج من غدد غزال المسك.

  • العنبر الرمادي: إفراز من أمعاء حوت العنبر.

  • القندس: يُستخرج من غدد قندس المسك.

  • الزباد: من إفرازات قط الزباد.

• المكونات الصناعية:
  ظهرت نتيجة تقدم الكيمياء العضوية، وتستخدم لتقليد الروائح الطبيعية أو ابتكار روائح جديدة، وهي اليوم مكون رئيسي في معظم العطور التجارية.

2. الكحول (الإيثانول)

يُستخدم الكحول كمذيب يخفف الزيوت العطرية، ويُساعد على تبخر العطر بسرعة عند رشه، مما يسمح بإطلاق الروائح تدريجياً حسب التسلسل الهرمي للنوتات. الإيثانول هو الأكثر شيوعًا بسبب تطايره السريع وعدم تأثيره على رائحة العطر.

يختلف تركيز الكحول حسب نوع العطر:

• Parfum: نسبة الكحول منخفضة (~20-30%).

• Eau de Parfum: نسبة الكحول أعلى (~70-80%).

• Eau de Toilette: نسبة الكحول تقارب (~85-90%).

• Eau de Cologne: تحتوي على نسبة عالية جدًا من الكحول (~90-95%).

3. الماء المقطر

يُضاف الماء المقطر لتخفيف العطر أكثر، ولتعديل تركيز الكحول والزيوت حسب نوع العطر المراد إنتاجه. الماء يجب أن يكون مقطرًا لتجنب التفاعلات الكيميائية أو الترسبات مع الزيوت.

4. المثبتات (Fixatives)

وظيفتها الحفاظ على استقرار العطر وثباته لأطول فترة ممكنة على الجلد. تساعد المثبتات على إبطاء عملية تبخر الزيوت العطرية، ما يمنح العطر ثباتاً ودواماً. تنقسم المثبتات إلى طبيعية وصناعية.

• مثبتات طبيعية:

  • المسك الطبيعي.

  • العنبر الرمادي.

  • الراتنجات النباتية.

• مثبتات صناعية:

  • بنزوات البنزيل.

  • فينيل إيثانول.

  • ديبوتيلايدروكسي تولوين (BHT).

ثانيًا: الهيكل العطري – الهرم الثلاثي للعطر

تُبنى تركيبة العطر على هيكل هرمي ثلاثي الطبقات، يتكون من:

1. النوتات العليا (Top Notes)

تمثل الرائحة الأولى التي يشعر بها عند رش العطر، وتتبخر بسرعة، وتدوم من 5 إلى 15 دقيقة. غالبًا ما تكون خفيفة ومنعشة وذات طابع حمضي أو عشبي.

• أمثلة: البرغموت، الليمون، النعناع، اللافندر.

2. النوتات الوسطى (Heart Notes)

تظهر بعد تلاشي النوتات العليا، وتشكّل “قلب العطر”، وهي أكثر استقرارًا وتدوم من 30 دقيقة إلى عدة ساعات. تمثل الطابع الأساسي للعطر.

• أمثلة: الياسمين، الورد، القرفة، جوزة الطيب.

3. النوتات القاعدية (Base Notes)

تظهر بعد اختفاء النوتات الوسطى وتدوم لساعات طويلة، أحيانًا ليوم كامل. تتميز بأنها غنية، كثيفة، وغالبًا ما تكون دافئة أو خشبية.

• أمثلة: الفانيليا، خشب الصندل، العنبر، المسك.

الجدول التالي يوضح مقارنة بين طبقات العطر الثلاث:

ثالثاً: تصنيفات العطور حسب التركيب والوظيفة

1. تصنيف العطور حسب التركيز

• Parfum (Extrait de Parfum): يحتوي على تركيز عالٍ جدًا من الزيوت العطرية (20-30%)، وثبات يدوم لأكثر من 24 ساعة.

• Eau de Parfum (EDP): يحتوي على 15-20% من الزيوت العطرية، مع ثبات جيد جداً يدوم 6-8 ساعات.

• Eau de Toilette (EDT): تركيز الزيوت فيه بين 5-15%، وهو أكثر خفة، ويدوم من 3 إلى 6 ساعات.

• Eau de Cologne (EDC): يحتوي على تركيز منخفض من الزيوت (~2-5%)، وغالبًا ما يستخدم كعطر منعش مؤقت.

• Body Mist / Splash: تركيز منخفض جداً، ويُستخدم للترطيب أو الإنتعاش المؤقت.

2. تصنيف العطور حسب العائلة العطرية

العطور تُصنّف حسب الرائحة العامة إلى “عائلات عطرية”، وهي:

• الزهرية (Floral): روائح الزهور مثل الياسمين والورد.

• الحمضية (Citrus): مستخرجة من الحمضيات، مثل البرتقال والليمون.

• الشرقية (Oriental): تحتوي على روائح دافئة كالفانيليا، المسك، والبهارات.

• الخشبية (Woody): ترتكز على روائح الأخشاب مثل الصندل والأرز.

• العشبية (Aromatic): تعتمد على الأعشاب مثل إكليل الجبل والمريمية.

• الجلدية (Leather): توحي برائحة الجلد المدبوغ والدخان.

• الفواكهية (Fruity): تعكس رائحة الفواكه الحلوة.

رابعاً: المكونات الاصطناعية ودورها في تطوير العطور

شهد القرن التاسع عشر تحولاً كبيراً في صناعة العطور، عندما استطاع الكيميائيون تصنيع مكونات عطرية شبيهة بالطبيعية. أدى هذا إلى ثورة في التصميم العطري من حيث التكلفة والثبات والتنوع.

مزايا المكونات الاصطناعية:

• توفر استقرارًا كيميائيًا عاليًا.

• تُنتَج بكميات كبيرة دون الاعتماد على مواسم النباتات.

• تقلل من التكاليف مقارنة بالمكونات الطبيعية.

• توفر إمكانيات إبداعية أكبر للمصممين.

أشهر المركبات الاصطناعية في العطور:

• لينالول: رائحة الأزهار.

• كومارين: رائحة الفانيليا الحلوة.

• سيتيرونيلول: رائحة الورود.

• إيزو إي سوبر: رائحة خشبية حديثة.

• غالاكسان: بديل صناعي للمسك.

خامساً: عملية تصنيع العطر

تبدأ عملية صناعة العطر باختيار المكونات بدقة، يليها التقطير أو الاستخلاص، ثم الخلط بنسب محددة مع الكحول والماء. تمر العملية بالمراحل التالية:

1. الاستخلاص: مثل التقطير بالبخار أو العصر البارد أو الإذابة بالمذيبات.

2. التركيب: مزج المكونات العطرية حسب الهرم العطري المطلوب.

3. التنضيج: تُترك الخلطة لتتخمر وتتمازج لفترة (من أسابيع إلى شهور).

4. الترشيح: إزالة أي شوائب أو رواسب.

5. التعبئة: تُعبأ العطور في زجاجات محكمة تحت شروط دقيقة.

سادساً: ثبات العطر والعوامل المؤثرة فيه

العوامل التي تؤثر في ثبات العطر:

• تركيز الزيوت العطرية: كلما زاد التركيز، زاد الثبات.

• نوع البشرة: البشرة الدهنية تثبت العطر أكثر من الجافة.

• درجة الحرارة: الحرارة تسرّع تبخر العطر.

• مكان الرش: النبضات (الرقبة، المعصم) تعزز من إطلاق العطر.

• البيئة: الهواء الجاف أو الرطب يؤثر في تفاعل العطر مع الجسم.

خاتمة

يتعدى العطر كونه مجرد رائحة؛ إنه تعبير عن الذات، وانعكاس للحالة النفسية، ووسيلة للتميز والجاذبية. إن مكونات العطر، رغم ما يبدو من بساطة، تخضع لدقة علمية وفنية عالية، تتطلب فهماً عميقاً للكيمياء، وذوقاً رفيعاً في التصميم. ما تخفيه كل زجاجة عطر من تفاصيل دقيقة يوضح كيف تجتمع الفنون القديمة مع العلوم الحديثة لإنتاج تجربة حسية خالدة.

المراجع

1. Poucher’s Perfumes, Cosmetics and Soaps, Hilda Butler, Springer, 2000

2. Perfume: The Alchemy of Scent, Jean-Claude Ellena, Arcade Publishing, 2011