المشاكسة.. ليست أمرًا سهل التقويم

تُعدُّ المشاكسة سلوكًا معقدًا يبرز في العديد من مراحل الحياة الإنسانية، خاصة في الطفولة والمراهقة، إلا أن امتدادها إلى سن الرشد قد يشير إلى خصائص شخصية متجذرة أو اضطرابات سلوكية ونفسية تتطلب فهماً دقيقاً ومعالجة متأنية. فالمشاكسة ليست مجرد حالة من المعارضة العابرة أو العناد المؤقت، بل هي غالبًا تعبير عن صراعات داخلية، أو وسيلة لإثبات الذات، أو رد فعل على بيئة اجتماعية ونفسية غير مستقرة. ولذلك، فإن تقويم هذا السلوك لا يتم بسهولة، بل يحتاج إلى تحليل متعدد الأبعاد يشمل الجوانب النفسية، الاجتماعية، الأسرية، والتربوية.

تعريف المشاكسة وتمظهراتها السلوكية

المشاكسة، في أبسط تعريفاتها، هي الميل المستمر إلى التحدي، الجدال، الاعتراض، ورفض الامتثال للأوامر أو التوجيهات، سواء صدرت من سلطة أبوية أو مدرسية أو مؤسساتية. وغالبًا ما تظهر المشاكسة من خلال مجموعة من التصرفات مثل كثرة الجدال مع الكبار، تجاهل القواعد، السخرية من الآخرين، إثارة النزاعات، الإصرار على تنفيذ الرغبات الشخصية دون اعتبار للآخرين، والتمرد على الأنظمة.

هذا السلوك لا يكون دائمًا موجهًا نحو الخارج فقط، بل قد يتجلى في صور من التحدي السلبي مثل التلكؤ في تنفيذ المهمات، أو التأخير المتعمد، أو التصرف بطريقة استفزازية. وفي بعض الحالات، قد تتطور المشاكسة إلى سلوك عدواني سواء كان لفظيًا أو جسديًا، ما يجعلها مصدر توتر داخل الأسرة أو في البيئة المدرسية أو المهنية.

الجذور النفسية والاجتماعية للمشاكسة

ليست المشاكسة سلوكًا ينشأ من فراغ، بل لها جذور نفسية واجتماعية عميقة. يمكن تتبع هذه الجذور في عدة محاور أساسية:

1. البيئة الأسرية

الأسرة هي البيئة الأولى التي يتشكل فيها السلوك، وعندما تسود العلاقة بين الأبوين والطفل أنماط من التسلط، العنف، الإهمال، أو التذبذب في القواعد والانضباط، فإن الطفل غالبًا ما يلجأ إلى المشاكسة كرد فعل دفاعي أو محاولة لاستعادة السيطرة على بيئة يشعر فيها بالضعف أو القهر.

كذلك فإن التناقض في التربية، حيث يكون أحد الوالدين صارمًا والآخر متساهلاً، يؤدي إلى خلل في فهم الطفل للحدود السلوكية المقبولة، ما يعزز سلوك المشاكسة كمحاولة لاختبار مدى صلابة تلك الحدود أو كوسيلة للحصول على انتباه أو سلطة أكبر.

2. العوامل النفسية

العديد من الاضطرابات النفسية تترافق مع سلوك المشاكسة، ومن أبرزها اضطراب العناد الشديد أو اضطراب السلوك المضاد للمجتمع. وفي بعض الحالات الأخرى، قد يكون السلوك نتيجة غير مباشرة لحالات مثل القلق، الاكتئاب، اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط (ADHD)، حيث تعبر المشاكسة عن توتر داخلي لا يُحسن الطفل أو الفرد البالغ التعبير عنه بطرق سوية.

3. الضغوط الاجتماعية والمجتمعية

تُسهم البيئة المدرسية والبيئة الاجتماعية المحيطة في تغذية سلوك المشاكسة. فعندما يتعرض الطفل أو المراهق للنبذ الاجتماعي، أو التهميش، أو الفشل الأكاديمي المتكرر، فقد ينشأ لديه شعور باللاجدوى أو الإحباط المزمن، ما يدفعه إلى تبني سلوكيات مشاكسة كنوع من إثبات الذات أو تحدي الواقع المؤلم الذي يعيشه.

صعوبة تقويم المشاكسة

تقويم المشاكسة يمثل تحديًا معقدًا بسبب الطبيعة المتشابكة لأسبابها، كما أن المظاهر السلوكية للمشاكسة غالبًا ما تكون متداخلة مع مظاهر أخرى من اضطرابات الشخصية أو التأقلم. ما يزيد من صعوبة التقويم أن الأشخاص المشاكسين غالبًا ما يرفضون الاعتراف بمشكلاتهم أو التعاون مع من يسعى لمساعدتهم، ويرون في كل تدخل نوعًا من السيطرة أو القمع، ما يعمّق لديهم الرغبة في المعارضة.

كما أن المشاكسة لا تتخذ دومًا طابعًا صريحًا، ففي كثير من الأحيان تكون مغلفة بالتهكم أو “المراوغة” أو اللعب على الثغرات في القوانين، مما يصعب من عملية توجيه العقوبات أو فرض حدود واضحة. وبالنتيجة، فإن التعامل مع المشاكسة يتطلب فطنة تربوية ونفسية عالية، تعتمد على الفهم العميق وليس فقط على العقوبة أو الإكراه.

المقاربات التربوية والعلاجية

من أجل تقويم السلوك المشاكس، لا بد من تبني مقاربات متعددة تُراعي الجوانب النفسية والتربوية والاجتماعية، ويمكن تلخيص أهم هذه المقاربات في النقاط التالية:

1. الاحتواء العاطفي بدلًا من المواجهة

تُظهر الدراسات التربوية الحديثة أن الاحتواء العاطفي والمقاربة الإيجابية في التعامل مع السلوكيات الصعبة أكثر فاعلية من الأساليب العقابية القاسية. فالفرد المشاكس في الغالب يبحث عن اهتمام أو يشعر بالإقصاء، وبالتالي فإن منحه مساحة للتعبير، والإنصات له دون أحكام مسبقة، يساعد على تفريغ الشحنات النفسية التي تغذي سلوكه المشاكس.

2. تحديد القواعد بوضوح وثبات

من أهم ركائز تقويم السلوك المشاكس وضع قواعد واضحة ومحددة للسلوك المقبول وغير المقبول، مع التزام الكبار أنفسهم بهذه القواعد. التذبذب أو التناقض في تطبيق العقوبات أو المكافآت يؤدي إلى إرباك الفرد المشاكس، ويمنحه فرصة للتلاعب بالمواقف.

3. العلاج السلوكي المعرفي (CBT)

يُعد العلاج السلوكي المعرفي من أكثر الأساليب فاعلية في معالجة السلوكيات المشاكسة، حيث يُساعد الفرد على التعرف إلى أنماط التفكير المشوهة التي تغذي سلوكه المعارض، والعمل على استبدالها بأنماط أكثر توازنًا. كما يُستخدم هذا الأسلوب في تعزيز مهارات التواصل وحل المشكلات، وتطوير استراتيجيات بديلة للتعامل مع الضغوط.

4. الدعم الأسري والتدريب الوالدي

لا يمكن فصل عملية تقويم السلوك عن بيئة الفرد، وخاصة أسرته. ولهذا فإن تدريب الوالدين على التعامل مع السلوكيات المشاكسة، وتوجيههم إلى أساليب التواصل الفعّال وإدارة الغضب، يُعد خطوة محورية في أي خطة علاجية ناجحة.

5. دمج الفرد في الأنشطة الاجتماعية الهادفة

المشاكسة غالبًا ما تتفاقم في بيئات الفراغ والروتين، بينما تتضاءل عندما ينخرط الفرد في أنشطة تُشعره بالإنجاز، وتتيح له فرصًا للتعبير البنّاء عن نفسه. الرياضة، الأنشطة الفنية، العمل التطوعي، كلها أدوات فعالة في توجيه طاقة الفرد المشاكس نحو مسارات إيجابية.

الفرق بين المشاكسة الطبيعية والمشاكسة المرضية

لا بد من التمييز بين ما يُعد من قبيل “المشاكسة الطبيعية” المرتبطة بمراحل النمو والتطور النفسي، مثل مشاكسة الأطفال في سن ما قبل المدرسة أو مشاكسة المراهقين الذين يسعون لتكوين هويتهم، وبين ما يُعد سلوكًا مرضيًا يحتاج إلى تدخل متخصص. وتُعتمد في هذا التمييز عوامل مثل:

انعكاسات المشاكسة على المستقبل الفردي والاجتماعي

إذا لم يتم تقويم سلوك المشاكسة بشكل مبكر وفعّال، فإن ذلك قد يترك آثارًا سلبية على مستقبل الفرد. فالمشاكس عادة ما يواجه صعوبات في تكوين علاقات صحية، سواء على مستوى الأسرة أو في بيئة العمل. كما أن مشاكسته المستمرة قد تُفقده فرصًا مهنية أو تعليمية، بل وقد تقوده إلى مشاكل قانونية إذا ما تطورت إلى سلوك عدواني أو مخالف للقوانين.

أما على الصعيد المجتمعي، فإن تفشي المشاكسة في أوساط الشباب يؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي، وظهور أنماط من السلوكيات المنحرفة، والتمرد على القيم والمعايير المجتمعية. ولهذا، فإن الوقاية والتقويم المبكر لسلوك المشاكسة ليس فقط مسألة شخصية، بل هو مسؤولية جماعية تسهم في استقرار المجتمع ككل.

خاتمة

إن المشاكسة ليست مجرد سلوك عرضي أو ظاهرة مؤقتة، بل هي حالة معقدة تحمل في طياتها الكثير من الأبعاد النفسية والاجتماعية والتربوية. ومع أن تقويمها ليس بالأمر السهل، إلا أنه ممكن من خلال فهم الأسباب العميقة الكامنة خلفها، وتبني استراتيجيات فعالة قائمة على الاحتواء، والتواصل، والدعم الأسري، والتدخل النفسي المتخصص عند الحاجة. التعامل مع المشاكسة ينبغي أن يتم برؤية شاملة تدمج بين الحزم والتفهم، وتوازن بين التأديب والتحفيز، بما يتيح للفرد فرصة التحول من دائرة المعارضة السلبية إلى فضاء الفعل الإيجابي والبناء.

المراجع:

1. American Psychiatric Association. (2013). Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders (5th ed.). Arlington, VA.

2. Barkley, R. A. (2013). Defiant Children: A Clinician’s Manual for Assessment and Parent Training. Guilford Press.