حماتي.. آه منها.. ويا سلام عليها

تتعدد الأدوار التي تلعبها الحماة في حياة كل أسرة، وتتداخل مشاعر القبول والرفض، الحب والكراهية، الراحة والانزعاج حين يذكر اسم “الحماة”، ذلك الكائن الاجتماعي الذي قد يتحول إلى محور مركزي في حياة الزوجين، وبالأخص الزوجة التي كثيرًا ما تكون طرفًا رئيسيًا في العلاقة الشائكة والمعقدة التي تنشأ بينها وبين والدة الزوج. الحماة، ويا للعجب، تستطيع أن تكون الملاك الحارس أحيانًا، والخصم اللدود أحيانًا أخرى. ولأنها ليست مجرد امرأة ترتبط بالأسرة عن طريق الزواج، بل تمثل جسرًا حيويًا بين الأجيال، فالعلاقة معها تحمل أبعادًا اجتماعية ونفسية وثقافية متشابكة، جديرة بالتأمل والتحليل.

الحماة بين التراث والواقع

في الثقافة العربية، ترسخت صورة نمطية للحماة باعتبارها شخصًا متسلطًا، يتدخل في تفاصيل الحياة الزوجية، ويقارن باستمرار بين “ابنها المدلل” و”الكنة”، أي الزوجة التي غالبًا ما تُنظر إليها كمنافسة لها في كسب حب واهتمام الابن. ولعل هذا الإرث الثقافي، المليء بالحكايات الشعبية والنكات والأمثال التي تنتقص من دور الحماة، ساهم في ترسيخ هذا التصور، رغم أن الواقع لا يعكس دائمًا هذه الصورة السوداوية.

الحماة في كثير من البيوت العربية هي العمود الفقري للعائلة، تمثل مصدر دعم لا يستهان به، وتتحمل أعباءً اجتماعية وعاطفية تتعدى حدود ما يظهر للعيان. في أوقات المرض أو الأزمات المالية، غالبًا ما تكون الحماة هي الملجأ، اليد الحانية التي لا تكلّ، والعقل المجرب الذي يحاول حماية الأسرة من الانهيار.

الحماة في ميزان العلاقات الأسرية

تلعب الحماة دورًا مهمًا في بنية العلاقات داخل الأسرة، فهي ليست فقط والدة الزوج أو الزوجة، بل عنصر يملك القدرة على تثبيت أواصر الترابط أو تفجير الخلافات. وهذا الدور يتفاوت بناءً على شخصيتها، تجاربها، مدى تقبلها للتغيير، وحدود تدخلها في الحياة الخاصة لأبنائها.

في بعض البيوت، تتحول الحماة إلى صديقة حميمة للزوجة، تقدم النصائح دون فرض، وتشارك في مسؤوليات تربية الأبناء، وتدعم القرار العائلي، دون انتقاص من خصوصية الزوجين. في حالات أخرى، تتحول الحماة إلى مراقب مزعج، تتدخل في أدق التفاصيل، وتنتقد أسلوب الحياة، وتثير النزاعات باسم “الخبرة” و”المحبة”.

هذه الازدواجية تجعل من الحماة شخصية يصعب تصنيفها. فهي ليست شريرة بالفطرة، ولا ملاكًا دائمًا، بل إنسانة مثل أي فرد آخر في الأسرة، تحمل طموحات وآلام وتجارب، وتبحث في النهاية عن مكانها في عالم يتغير من حولها باستمرار.

التصادم بين الأجيال

من أبرز أسباب التوتر بين الحماة والزوجة هو التصادم بين الأجيال، حيث تنتمي كل منهما إلى زمن وثقافة مختلفة. فالحماة غالبًا ما نشأت في بيئة تقليدية ترى أن الأم هي المرجعية الأولى في حياة الابن، بينما تنتمي الزوجة إلى جيل حديث، يميل إلى الاستقلالية ويرفض التدخلات الخارجية. هذا التصادم يولّد سوء فهم دائم، حيث ترى الحماة أن الزوجة “تخطف” ابنها منها، بينما ترى الزوجة أن الحماة لا تعترف بحدود الخصوصية.

وتكمن المشكلة الكبرى حين لا يُدار هذا التصادم بحكمة من الطرفين. الحماة المتصلبة في آرائها، والزوجة التي تشعر بالتهديد من وجود الحماة، كلاهما يسهم في خلق بيئة أسرية مشحونة، تتحول فيها كل مبادرة إلى معركة وكل كلمة إلى تلميح.

الزوج بين المطرقة والسندان

في خضم هذه التوترات، يقف الزوج غالبًا في موقف لا يُحسد عليه. فهو الابن الذي لا يستطيع التنكر لحب والدته، وفي ذات الوقت هو الزوج الذي يجب أن يوفر الأمان والدعم لزوجته. ومع كل محاولة للتوازن، يزداد الضغط النفسي عليه، ويتحول إلى وسيط بين طرفين كل منهما يشعر بالغبن.

الزوج الحكيم هو من يعرف كيف يضع الحدود من دون إيذاء أحد، ويعرف متى يدافع عن والدته، ومتى ينحاز لزوجته، ومتى يصمت ليمنح الأمور فرصة للتهدئة. لكنه في كثير من الحالات يفشل، إما لأنه يفتقر للأدوات النفسية والاجتماعية اللازمة، أو لأن البيئة الأسرية المحيطة به لا تساعده على اتخاذ مواقف متزنة.

الحماة كجسر للتواصل أو حاجز

تستطيع الحماة أن تكون الجسر الذي يربط بين عالمين، عالم الأمومة والتقاليد، وعالم الحداثة والاستقلالية. فحين تدرك أن ابنها لم يخسرها بزواجه، وإنما أصبح أكثر اتزانًا ونضجًا، تصبح علاقتها بالزوجة أكثر سلاسة. لكن حين تنظر إلى الزواج على أنه “خسارة”، فهنا تبدأ المشاكل، وتتحول العلاقة إلى صراع على النفوذ والولاء.

بالمقابل، حين تعترف الزوجة بدور الحماة في تكوين شخصية زوجها، وتمنحها التقدير الذي تستحقه، وتضع خطوطًا واضحة للتعامل، دون احتقار أو خصومة، تسهم في تحويل العلاقة إلى شراكة اجتماعية صحية.

الحماة كداعم نفسي واجتماعي

في حالات كثيرة، كانت الحماة هي من أنقذت الأسرة من الانهيار. الأم التي تساعد الزوجين على تجاوز أزمات الحمل والولادة، أو التي تتحمل مسؤولية الأطفال عند غياب الأبوين، أو التي تدعم ابنها ماليًا في بداية حياته، أو حتى التي تقدم المشورة عند المواقف العصيبة. هذه الحماة غالبًا ما تكون عمودًا أساسيًا في الاستقرار العائلي، وتستحق التقدير لا العداء.

لكن للأسف، لا تُذكر هذه النماذج كثيرًا، لأن المجتمع يفضل تضخيم النماذج السلبية، ويركز على حكايات “الحماة الشريرة”، مما يرسخ صورة نمطية جائرة، لا تعبّر عن الواقع.

تأثير الثقافة الشعبية والإعلام على صورة الحماة

تلعب وسائل الإعلام دورًا خطيرًا في ترسيخ النظرة السلبية للحماة. ففي المسلسلات العربية القديمة والحديثة، نادرًا ما نجد حماة تُصوَّر بصورة إيجابية. هي دائمًا المرأة المتسلطة، التي تتجسس على الزوجين، وتثير الخلافات، وتحاول فرض سيطرتها. هذه الصورة الكاريكاتورية جعلت من الحماة “عدوًا افتراضيًا”، حتى قبل أن تبدأ العلاقة الحقيقية.

هذه الصورة تنتقل حتى للأطفال، إذ يكبر الأبناء على نكات الأم التي تشتكي من حماتها، وعلى قصص الخلافات التي يسمعونها داخل الأسرة، مما يعيد إنتاج النموذج السلبي للحماة، جيلًا بعد جيل.

التعامل الحكيم مع الحماة

التعامل مع الحماة يحتاج إلى وعي اجتماعي ونضج نفسي. أول ما يجب فهمه أن الحماة لا تأتي من فراغ، بل تحمل تاريخًا نفسيًا واجتماعيًا طويلًا، يتطلب التفهم وليس المواجهة. التفاهم مع الحماة لا يعني التنازل عن الحقوق، بل يعني إدراك أن العلاقة العائلية لا تُبنى بالصراخ والعداء، بل بالتقدير والوضوح والحدود السليمة.

من الضروري أن تكون هناك مسافة صحية بين الزوجة والحماة، تتسع بالحب، وتتقلص حين يحدث تدخل غير مرغوب. كما يجب أن يدرك الجميع أن وجود الحماة لا يهدد الأسرة، بل يمكن أن يكون عنصر دعم واستقرار، إذا ما تم التعامل معه بذكاء عاطفي.

الحماة المثالية: خصال نادرة ولكن ممكنة

لا يوجد نموذج مطلق لما يمكن أن نُسميه “الحماة المثالية”، ولكن ثمة صفات تجعل منها شخصًا محبوبًا وسهل التعامل. من أهم هذه الصفات:

الحماة التي تتحلى بهذه الصفات غالبًا ما تصبح شخصًا مرحبًا به في كل وقت، ويُنظر إليها كمصدر راحة واستقرار، لا كمصدر قلق ومواجهة.

حين تتحول الحماة إلى نعمة

في كثير من البيوت، تشكل الحماة إضافة جميلة لحياة الأسرة، تملأ الفراغ العاطفي، وتمنح الأبناء حنانًا مضاعفًا. حين تكون العلاقة مبنية على الاحترام المتبادل، والتفاهم الصادق، والتقدير الحقيقي، تتحول الحماة إلى نعمة، تبارك الحياة، وتلهم الحب، وتحفظ النَسَب.

هناك حموات يُذكرن بالخير حتى بعد الرحيل، لأنهن تركن بصمة إيجابية، ولم يكنّ خصمًا في البيت، بل شركاء في صناعة الأمان والاستقرار. وفي النهاية، الحماة ليست مجرد عنوان لنكتة شعبية، بل إنسانة لها مشاعر، وخلفها قصة طويلة، وداخلها أم تشتاق للقبول والطمأنينة.

المراجع:

1. كتاب “العلاقات الأسرية في المجتمعات العربية” – د. أمل الرفاعي، المركز العربي للنشر، 2018.

2. مقال “تأثير الثقافة الشعبية على صورة الحماة في المجتمع” – مجلة الفكر الاجتماعي، عدد مارس 2022.