الهوس الشرائي جزء من مرض الاكتئاب: قراءة نفسية وسلوكية معمقة

في عالم تتكاثر فيه المغريات الاستهلاكية وتتسارع وتيرة الحياة، بدأت تظهر أنماط جديدة من السلوك البشري تحمل في طياتها أبعاداً نفسية عميقة تتجاوز التفسير الاقتصادي التقليدي. من بين هذه السلوكيات يبرز ما يُعرف بالهوس الشرائي أو “الشراء القهري”، وهو سلوك يُنظر إليه عادةً بوصفه اضطراباً سلوكياً قائماً بذاته، إلا أن الدراسات الحديثة والأبحاث النفسية الرصينة بدأت تربطه ارتباطاً وثيقاً باضطرابات المزاج، وعلى رأسها الاكتئاب. ليس غريباً أن نجد أفراداً يعانون من الاكتئاب يجدون في الإنفاق المفرط والشراء المندفع وسيلة لتفريغ التوتر الداخلي أو الهروب من المشاعر السلبية، فيتحول الشراء إلى نوع من الإدمان النفسي، وربما يمثل وجهاً من أوجه التعبير غير المباشر عن معاناتهم النفسية.

مفهوم الهوس الشرائي

الهوس الشرائي (Compulsive Buying Disorder – CBD) هو اضطراب سلوكي يتمثل في الرغبة القهرية المتكررة لشراء سلع أو خدمات، دون حاجة حقيقية لها، ودون قدرة على ضبط هذه الرغبة. يتعدى الأمر مجرد حب التسوق أو الإفراط العرضي في الإنفاق، ليصبح نمطاً متكرراً مدمراً للحياة الاجتماعية والمالية والنفسية للفرد.

يشعر الشخص المصاب بهذا السلوك بدافع قهري للشراء، يليه إحساس مؤقت بالراحة أو النشوة، يعقبه شعور عميق بالندم أو الذنب. وفي كثير من الحالات، يرتبط هذا السلوك بمحاولات الشخص للتغلب على مشاعر داخلية سلبية مثل الحزن، الملل، أو الفراغ العاطفي، وهي مشاعر تتقاطع مباشرة مع السمات الأساسية للاكتئاب.

العلاقة بين الهوس الشرائي والاكتئاب

ترتكز العلاقة بين الهوس الشرائي والاكتئاب على جملة من العوامل النفسية والبيولوجية المتداخلة. فالاكتئاب لا يتجلى فقط في الحزن أو الخمول، بل قد يتمظهر في سلوكيات تعويضية مثل الأكل القهري، الإدمان، أو الشراء غير المنضبط. يعاني المكتئب عادةً من فراغ داخلي وانخفاض في تقدير الذات، فيسعى لإشباع هذا النقص من خلال اقتناء الأشياء المادية، التي تمنحه، ولو مؤقتاً، شعوراً بالسيطرة أو الامتلاء.

في هذا السياق، يلعب “الشراء القهري” دوراً مشابهاً لما تلعبه العقاقير أو الكحول لدى بعض الأشخاص: مسكن وقتي للألم النفسي. بيد أن المفعول سرعان ما يتلاشى، ليُستبدل بمزيد من الشعور بالذنب والضعف والعجز، وهو ما يغذي دوامة الاكتئاب مجدداً.

وقد كشفت الدراسات النفسية أن نسبة لا بأس بها من المصابين بالهوس الشرائي يعانون من اضطرابات مزاجية، وتحديداً الاكتئاب، حيث أظهرت إحدى الدراسات أن حوالي 60% من المصابين بالهوس الشرائي لديهم تاريخ مرضي مع الاكتئاب.

الآليات النفسية التي تربط الاكتئاب بالشراء القهري

1. التعويض العاطفي: يعاني المكتئب من شعور دائم بالحزن أو عدم الرضا، ما يدفعه للبحث عن “مكافأة” أو “فرحة فورية” يمكن أن يوفرها الشراء، حتى وإن كانت هذه الفرحة قصيرة الأمد.

2. انخفاض تقدير الذات: في حالات الاكتئاب، يشعر الفرد بعدم القيمة أو الدونية. الشراء يمنحه، ولو لحظياً، شعوراً زائفاً بالنجاح أو الجدارة الاجتماعية، خاصةً عند شراء سلع باهظة أو رمزية.

3. الهروب من الواقع: قد يُستخدم الشراء كوسيلة للهروب من ضغوط الحياة أو المشاعر المؤلمة. فعملية التسوق تُشغل الذهن وتمنح الفرد انشغالاً وقتياً، بعيداً عن التفكير في معاناته النفسية.

4. غياب الرقابة الذاتية: مع الاكتئاب، يُضعف الجهاز التنفيذي للدماغ، لا سيما القشرة الجبهية المسؤولة عن التخطيط وضبط السلوك. هذا ينعكس في غياب القدرة على كبح الرغبات اللحظية.

العوامل المحفزة للهوس الشرائي في سياق الاكتئاب

• وسائل الإعلام والإعلانات: تستغل الشركات الإعلانية حالات الفراغ والاحتياج النفسي لدى الأفراد، وتربط بين السعادة والاستهلاك، مما يجعل المكتئب أكثر عرضة للتأثر بتلك الرسائل.

• الضغوط الاجتماعية: في مجتمعات ترتبط فيها المكانة الاجتماعية بالقدرة الاستهلاكية، يشعر المكتئب بحافز لتعويض إحساسه بالفشل أو التهميش من خلال اقتناء الماركات أو الرموز المادية للمكانة.

• العزلة الاجتماعية: الأشخاص المصابون بالاكتئاب قد يعانون من قلة العلاقات أو الدعم الاجتماعي، ما يجعلهم يملؤون هذا الفراغ من خلال العلاقة غير الصحية مع الاستهلاك.

الأبعاد العصبية والبيوكيميائية

من منظور علم الأعصاب، يُعتقد أن الهوس الشرائي يرتبط بخلل في نظام المكافأة في الدماغ، وتحديداً في مناطق مثل “النواة المتكئة” (Nucleus Accumbens) و”الجهاز الحوفي”، حيث تلعب مادة الدوبامين دوراً رئيسياً في منح الشعور بالمتعة. في حالات الاكتئاب، يكون نشاط هذا النظام منخفضاً، ويُستخدم الشراء كوسيلة لتحفيزه مؤقتاً.

تُظهر الدراسات أن الأدوية المضادة للاكتئاب التي تؤثر على مستويات السيروتونين والدوبامين قد تؤدي إلى تحسن في أعراض الشراء القهري، مما يعزز فرضية العلاقة العضوية بين الاضطرابين.

المضاعفات السلوكية والاجتماعية

يؤدي الهوس الشرائي في سياق الاكتئاب إلى سلسلة من الأضرار المتراكبة:

• مشاكل مالية مزمنة: غالباً ما يترتب على هذا السلوك مديونية متصاعدة، وصعوبات في تسديد الالتزامات، ما يعمّق الشعور بالفشل والذنب.

• توتر العلاقات الشخصية: يعاني المريض من انتقادات دائمة من الأسرة أو الشريك نتيجة السلوك غير المسؤول، ما يزيد من عزلته وتفاقم اكتئابه.

• الإضرار بالصورة الذاتية: الشعور بالذنب بعد نوبة الشراء يولد حلقة مفرغة من جلد الذات، تقلل من احترام الذات وتعزز المشاعر الاكتئابية.

• الإدمان النفسي: يصبح الشراء نوعاً من “السلوك القهري” الذي يصعب مقاومته حتى مع إدراك ضرره، مما يعقّد مسار العلاج.

المعالجة النفسية والسلوكية

يتطلب التعامل مع الهوس الشرائي المصاحب للاكتئاب خطة علاجية شاملة تشمل:

1. العلاج السلوكي المعرفي (CBT)

يساعد في:

• التعرف على الأفكار التلقائية السلبية التي تقود إلى الشراء.

• تطوير استراتيجيات لمقاومة الدافع اللحظي للشراء.

• بناء مهارات تنظيم المشاعر.

2. العلاج الدوائي

قد تُستخدم مضادات الاكتئاب مثل مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية (SSRIs) في الحالات التي يترافق فيها الهوس الشرائي مع اكتئاب سريري.

3. العلاج الأسري والجماعي

يساهم في تقوية الدعم الاجتماعي ومساعدة المريض على مواجهة الضغوط المحيطة، وتقليل شعوره بالوحدة أو الإقصاء.

4. تدريب مهارات الإنفاق

يتمثل في تعليم الشخص كيفية وضع ميزانية، تتبع النفقات، وتأجيل قرارات الشراء، بما يعيد له السيطرة على سلوكه المالي.

5. التدخلات التكنولوجية

توجد تطبيقات رقمية تساهم في تتبع سلوك الشراء، إرسال تنبيهات عند تجاوز حدود الإنفاق، أو حجب المواقع التجارية خلال فترات ضعف السيطرة الذاتية.

إحصائيات وجوانب ديموغرافية

أشارت دراسة نُشرت في مجلة Journal of Anxiety Disorders أن الهوس الشرائي يصيب حوالي 6-8% من السكان، وغالباً ما يبدأ في أواخر سن المراهقة أو بداية العشرينات. كما تُظهر الإحصائيات أن النساء أكثر عرضة لهذا الاضطراب، لكن الدراسات الحديثة بدأت ترصد تزايداً ملحوظاً بين الذكور أيضاً، خاصةً في فئات الشباب الذين يعيشون تحت ضغوط اجتماعية واقتصادية متزايدة.

الخلاصة العلمية

يمثل الهوس الشرائي وجهاً خفياً من أوجه اضطراب الاكتئاب، لا يقل خطورة عن أعراضه التقليدية مثل فقدان الشهية أو اضطراب النوم أو ضعف الطاقة. فالسلوك الاستهلاكي ليس مجرد قرار اقتصادي، بل قد يكون نافذة لفهم الصراعات النفسية التي يعيشها الفرد. حين يُستخدم الشراء كوسيلة لتسكين الألم النفسي أو ملء فراغ داخلي، فإنه يفقد وظيفته الطبيعية ويتحول إلى اضطراب يحتاج إلى فهم وتدخل علاجي.

ينبغي على المشتغلين في الحقل النفسي، وكذلك المعنيين بالصحة المجتمعية، أن يضعوا هذا السلوك تحت المجهر، وأن يُدرج ضمن مؤشرات الاكتئاب غير التقليدية التي قد تُهمل أو تُفسر تفسيراً سطحياً. كما يتوجب على الأسر والمجتمعات أن تتعامل مع هذه الظاهرة برؤية أكثر عمقاً واحتواءً، بعيداً عن الوصم أو التهكم، فالمسألة ليست فقط إنفاقاً زائداً، بل قد تكون نداء استغاثة من أعماق نفس تتألم في صمت.

المراجع:

1. Black, D. W. (2007). A review of compulsive buying disorder. World Psychiatry, 6(1), 14–18.

2. McElroy, S. L., Keck Jr, P. E., & Phillips, K. A. (1995). Kleptomania, compulsive buying, and binge-eating disorder. Journal of Clinical Psychiatry, 56(suppl 4), 14–26.