لولا الله ما اهتدينا
تُعتبر العبارة القرآنية “لولا الله ما اهتدينا” من أعمق العبارات التي تحمل في طياتها معانٍ روحية وإيمانية عميقة تتعلق بالهداية والإرشاد إلى طريق الحق. هي عبارة تختزل حقيقة أن الهداية لا تأتي إلا من عند الله سبحانه وتعالى، وأن الإنسان مهما بذل من جهود في البحث عن الصواب والحق، فإن الوصول إلى نور الهداية والرشاد هو بيد الله وحده، ولا يُمكن لأحد أن ينالها دون أن يمن الله عليه بها.
معنى الهداية في الإسلام
الهداية في اللغة تعني الطريق المستقيم، والإرشاد إلى الصواب، بينما في الاصطلاح الشرعي تشير إلى توفيق الله عز وجل للعبد لاتباع ما فيه الخير والصلاح والفلاح، وترك ما يؤدي إلى الضلال والضرر. هي من أعظم نعم الله على عباده، حيث أن الله وحده هو الذي يفتح القلوب وينيرها بالعلم والمعرفة، ويهدي النفوس إلى طريق الاستقامة والحق.
في القرآن الكريم، ذُكرت الهداية في مواضع كثيرة، وجاء ذكرها مع الإشارة إلى أن الله هو المعطي الحقيقي لها، يقول تعالى في كتابه العزيز:
“لَا تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ” (إبراهيم: 42)
وهذا يدل على أن الله يعلم كل شيء ويدبر الأمور بحكمة، ومن ضمن ذلك الهداية للناس.
كيف تكون الهداية من الله؟
الهداية ليست مجرد معرفة عقلية أو فكرة ناضجة في الذهن، بل هي نور يفتح الله به القلوب. وهي تتطلب استجابة من الإنسان، إذ لا تأتي بالكسل أو التراخي، بل بالاجتهاد في طلب العلم والعمل الصالح، والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالطاعات والعبادات.
الهدى من الله يكون في مراحل عدة:
-
هدى العلم: وهو بداية الفهم الصحيح للدين، بمعرفة الأوامر والنواهي وأحكام الشرع.
-
هدى القلب: وهو اليقين والإيمان الذي يحرك الإنسان نحو الطاعة والابتعاد عن المعاصي.
-
هدى العمل: وهو الالتزام بأوامر الله في الواقع العملي، وتحقيق القيم الإسلامية في الحياة اليومية.
هذه المراحل لا تتحقق إلا بنعمة الله التي تشمل الفهم والإلهام والقوة على التطبيق.
أهمية الاعتراف بأن الهداية من الله
الاعتراف بأن الهداية تأتي من الله وحده يعزز التواضع في الإنسان ويبعده عن الغرور والاعتماد على الذات فقط. كثير من الناس يعتقدون أنهم وحدهم من يستطيعون الوصول إلى الحق بواسطة العقل أو الجهد الشخصي، ولكن القرآن والسنة النبوية يوضحان أن كل خير وهداية هي من فضل الله.
في الحديث الشريف، يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
“الهداية نور في القلب لا يفتحه إلا الله”، وهذا يؤكد أن العبد مهما بذل، فإن الله هو المنعم عليه بالهداية.
آيات قرآنية تؤكد أن الهداية بيد الله
تكررت عبارة “لولا الله ما اهتدينا” في سياق عدة آيات قرآنية تؤكد أن الهداية ليست من صنع الإنسان، بل هي فضل إلهي عظيم، منها قوله تعالى في سورة الأعراف:
“وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَلَقَدْ كُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ” (الأعراف: 51)
وهذا يدل على أن الله وحده القادر على حفظ العباد من الضلال.
كذلك في سورة القصص، جاء قوله تعالى:
“وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كُنتَ مِنَ الْمُهْلِكِينَ” (القصص: 85)
ويُفهم منها أن الثبات والهداية هما من فضل الله على النبي والناس.
والأكثر شهرة وأوضحها في معناه:
“لَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللّهُ عَلَيْهِمُ الْهُدَىٰ لَقَالُوا لَوْلَا أَنْزَلَ اللّهُ” (الأنعام: 71)
هذا يعني أن الهداية تُمنح من الله بإرادته ومشيئته.
الهداية وتأثيرها في حياة الإنسان
الهداية الإلهية هي المحور الذي يدور حوله الإنسان في مسيرته الروحية والدنيوية. من دونها يكون الإنسان ضائعاً في متاهات الشهوات والغرائز والضلال الفكري والعملي. أما مع الهداية فتتغير حياة الإنسان جذريًا:
-
النفس تزداد طمأنينة وسكينة: لأن الهداية تعني أن الإنسان يسير في الطريق الذي يقربه من الله، وبالتالي يبتعد عن القلق والتردد.
-
العمل يتصف بالصدق والإخلاص: فلا يكون مجرد أداء لطقوس فقط، بل هو عبادة تقربه من الله.
-
العلاقات الاجتماعية تتحسن: لأن الهداية تدفع الإنسان إلى التعامل بالحسنى والعدل مع الآخرين.
-
العيش في رضا الله: وهو أعظم من أي رضى دنيوي، حيث يشعر الإنسان أنه في معية الله ويحظى برعايته.
الهداية في ضوء التجارب الإنسانية
إن الكثير من التجارب التي يمر بها الإنسان تؤكد أن الهداية ليست مجرد فكرة نظرية، بل واقع محسوس يتبدى في تحول الإنسان من حالة الضلال إلى حالة النور. كيف ذلك؟
إن كثيرًا من الناس عندما كانوا في حالة فقدان للهدف أو الانجراف خلف ملذات الحياة أو الأهواء الشخصية، وجدوا في لحظة ما نقطة تحوّل قادتها يد الله بالهداية. هذه اللحظة قد تكون عبر قراءة آية، أو استماع لخطبة، أو تفكر في خلق الله، أو حتى تجربة شخصية صعبة، كلها تُعتبر وسائل يستخدمها الله لهداية عباده.
وهذا يبين أن الهداية ليست حكراً على فئة معينة، بل هي متاحة لكل إنسان يسعى إليها بصدق وندم وتوبة.
الجهد الإنساني مع الهداية الإلهية
بالرغم من أن الهداية من عند الله، إلا أن ذلك لا يعني أن الإنسان لا يبذل جهداً في طلبها. بل الإسلام يحث على السعي والعمل المستمر لطلب الهداية. قال تعالى:
“فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا” (هود: 112)
وهذا يعني أن الاستقامة والسير في طريق الله تحتاج إلى اجتهاد.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
“اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”
فالعلم هو من أهم وسائل الهداية، إذ بدون العلم الصحيح لا يمكن للإنسان أن يميز بين الحق والباطل.
إذاً الجهد الإنساني لا يتعارض مع الهداية الإلهية، بل هو شرط لها. ولا بد من الاستعانة بالله والتوكل عليه مع الأخذ بالأسباب.
دور الهداية في بناء المجتمعات
الهداية ليست مسألة فردية فحسب، بل لها أثر عميق في بناء المجتمعات الصالحة. المجتمعات التي تقوم على قيم الحق والعدل والتقوى هي نتيجة لهداية أفرادها إلى المبادئ السليمة.
عندما يهدى الفرد، يصبح مؤثراً إيجابياً في بيئته، وينشر الخير والمعروف ويكافح الظلم والفساد. بالتالي، الهداية لها دور محوري في تحقيق السلام الاجتماعي، والازدهار الاقتصادي، والتقدم العلمي، والاستقرار السياسي.
وهذا يفسر لماذا اهتم الإسلام بتربية الفرد على الهداية، لأنها الحجر الأساسي الذي يُبنى عليه المجتمع الصالح.
الهداية في ضوء الفلسفة الإسلامية
العديد من الفلاسفة المسلمين تناولوا موضوع الهداية من منطلق عقلاني وروحي معاً. ابن سينا وابن رشد وابن تيمية وغيرهم أكدوا على أن الإنسان مخلوق قادر على استخدام عقله في طلب الحقيقة، ولكن هذا العقل وحده لا يكفي للوصول إلى الهداية الكاملة.
العقل يعمل كأداة، ولكن النور الإلهي هو الذي يضيء الطريق. ولهذا قال ابن تيمية:
“العقل بلا هداية لا قيمة له، والقلوب بلا نور الله تبقى في ظلمات الجهل.”
هذه الفكرة تربط بين العلم والعقل والروح في إطار الإيمان، وتبرز أن الهداية من الله هي الأصل والأساس.
الخلاصة
العبارة “لولا الله ما اهتدينا” ليست مجرد كلمات عابرة، بل هي حقيقة إيمانية ثابتة في جوهر العقيدة الإسلامية. الهداية من الله هي النعمة الكبرى التي لا تقدر بثمن، وهي التي تمنح الإنسان سعادة الدنيا والآخرة، وتضعه على طريق الرشاد والاستقامة.
من خلال القرآن والسنة والعقل والتجارب الإنسانية، يتضح أن الهداية ليست حكراً على أحد، وإنما هي باب مفتوح لكل من صدق في طلبه واستعان بالله وابتغى رضاه. كذلك فهي تتطلب جهداً إنسانياً مستمراً يترافق مع توفيق الله ورحمته.
الهداية هي شعلة النور التي تضيء الظلمات في قلوبنا، وهي الرابطة التي تربط الإنسان بخالقه، وتؤهله للعيش حياة كريمة متزنة، يسودها السلام الداخلي والطمأنينة.
المراجع
-
القرآن الكريم.
-
تفسير الطبري، جلال الدين السيوطي، دراسة حول الهداية في الإسلام.
