إنشاء مجموعة قراءة ناجحة

إنشاء مجموعة ناجحة لمناقشة الكتب ليس مجرد دعوة لعدد من الأصدقاء للجلوس معاً وتبادل الآراء، بل هو مشروع ثقافي وتنموي يحتاج إلى تخطيط واعٍ، وتنظيم دقيق، وبيئة محفزة على الحوار والنمو المعرفي. فمجموعات القراءة هي وسيلة فعالة لتعزيز الثقافة المجتمعية، ونشر حب الكتاب، وفتح آفاق التواصل الفكري بين الأفراد. ولكي تؤدي هذه المجموعات دورها بنجاح، لا بد من مراعاة مجموعة من العناصر الأساسية التي تضمن استمراريتها وفعاليتها، وتجعل منها تجربة ملهمة وغنية.

أهمية مجموعات القراءة

تسهم مجموعات مناقشة الكتب في تعزيز الثقافة الفردية والجماعية، وتحفز على الاستمرارية في القراءة، وتخلق مساحة آمنة للحوار وتبادل الأفكار. كما أنها تتيح للقراء اكتشاف كتب متنوعة قد لا يختارونها بمفردهم، وتساعدهم على تعميق الفهم والتحليل من خلال النقاش الجماعي. وقد أظهرت العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية أن المشاركة في مثل هذه المجموعات تعزز الشعور بالانتماء، وتزيد من المهارات اللغوية والتفكيرية، وتحسن من الذكاء العاطفي والقدرة على الاستماع والتعاطف مع وجهات النظر المختلفة.

الخطوة الأولى: تحديد الهدف والرؤية

النجاح يبدأ بتحديد الرؤية بوضوح. يجب أن يسأل المؤسسون أنفسهم عن الهدف من إنشاء هذه المجموعة: هل الهدف هو تعزيز ثقافة القراءة بشكل عام؟ أم التعمق في نوع معين من الكتب مثل الروايات أو الكتب الفكرية أو كتب تطوير الذات؟ تحديد الهدف يوجه اختيارات الكتب، وطبيعة الأعضاء، وأسلوب النقاش. كما أنه يساعد على رسم حدود واضحة لما هو متوقع من الأعضاء وكيفية التفاعل داخل المجموعة.

اختيار الأعضاء بعناية

من أهم العوامل في نجاح مجموعة مناقشة الكتب هو اختيار الأعضاء. من الأفضل أن يكون عدد الأعضاء محدوداً إلى حد ما (من 6 إلى 12 شخصاً) لضمان فعالية الحوار وعدم تحوله إلى فوضى. كما يفضل أن يكون هناك حد أدنى من الالتزام بالقراءة والمشاركة. التنوع في الخلفيات الفكرية والثقافية للأعضاء يعد عاملاً إيجابياً لأنه يثري النقاش ويقدم زوايا مختلفة للفهم والتحليل، لكن من الضروري أيضاً وجود قدر من الانسجام والاحترام المتبادل لضمان بيئة صحية وآمنة للنقاش.

وضع نظام داخلي للمجموعة

لكي تعمل المجموعة بشكل منظم، يجب أن يكون لها نظام داخلي يوضح القواعد العامة مثل: عدد الاجتماعات، مواعيدها، طريقة اختيار الكتب، مدة القراءة، دور كل عضو، وأسلوب النقاش. يمكن مثلاً الاتفاق على أن يتم اختيار كتاب شهرياً عن طريق التصويت، وتحديد وقت محدد لمناقشته، وتناوب أعضاء المجموعة في تيسير النقاش. وجود إطار تنظيمي واضح يقلل من الخلافات ويساعد على الحفاظ على مسار واضح ومتزن لنشاط المجموعة.

اختيار الكتب بعناية

نوعية الكتب التي تتم مناقشتها تؤثر بشكل مباشر في جاذبية المجموعة وجودة النقاشات. يفضل أن تكون الكتب متنوعة من حيث الموضوع والمجال والزمن الجغرافي والثقافي، وأن تفتح أبواباً للتفكير والنقاش، وليس فقط للمتعة. يمكن المزج بين روايات أدبية، وكتب فكرية، وسير ذاتية، وكتب علمية أو اجتماعية. كما يمكن تخصيص بعض الدورات للتركيز على موضوع معين مثل “أدب المرأة”، أو “كتب الفلسفة المبسطة”، مما يخلق سياقاً غنياً ومتسقاً.

تيسير النقاش بأسلوب احترافي

دور منسق الجلسة مهم للغاية في توجيه الحوار، وضمان توازنه، وتحفيز المشاركة من الجميع. لا ينبغي أن يتحول النقاش إلى عرض لأفكار فردية طويلة، بل إلى تبادل أفقي يحترم الآراء المختلفة ويشجع على الاستماع والتفاعل البناء. يمكن استخدام أسئلة مفتوحة لتحفيز التفكير، وتشجيع الأعضاء على تقديم وجهات نظر مختلفة، وتحليل الشخصيات، والبنية السردية، وأسلوب الكاتب، والسياق الثقافي للكتاب. كما يُفضل استخدام بعض الأدوات المساعدة مثل بطاقات النقاش أو الخرائط الذهنية.

تعزيز التفاعل خارج اللقاءات

لضمان استمرار الحماس والانخراط في المجموعة، من المهم الحفاظ على التفاعل بين الأعضاء خارج إطار اللقاءات الرسمية. يمكن إنشاء مجموعة على تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل واتساب أو تيليغرام لمشاركة الانطباعات السريعة، والاقتباسات، والمراجعات الشخصية، والمقالات المتعلقة بالكتاب، أو حتى المواد المرئية التي تتناول موضوعاته. هذا النوع من التفاعل يعمق التجربة القرائية، ويحول المجموعة إلى مجتمع معرفي متكامل.

تقييم مستمر وتطوير دائم

بعد فترة من النشاط، من الضروري إجراء تقييم دوري لمستوى التفاعل، وجودة النقاش، واختيار الكتب، ومدى تحقيق أهداف المجموعة. يمكن أن يتم هذا التقييم من خلال استبيانات، أو لقاءات مخصصة لتبادل الآراء حول مستقبل المجموعة، أو جلسات عصف ذهني لاقتراح أفكار جديدة. من المفيد أيضاً فتح المجال لتجربة أنماط مختلفة من اللقاءات، مثل استضافة مؤلفين، أو تخصيص جلسات للمقارنة بين كتب متعددة، أو مناقشة كتاب في مكان يرتبط بسياقه (مثل مناقشة رواية تاريخية في متحف أو مكتبة عامة).

الاستفادة من الوسائط المتعددة

لزيادة جاذبية المجموعة وإثراء التجربة، يمكن الاستفادة من الوسائط المتعددة مثل عرض مقاطع فيديو وثائقية تتعلق بموضوع الكتاب، أو الاستماع إلى بودكاست يناقش الفكرة، أو قراءة مراجعات نقدية من مجلات مختصة. إدخال هذه العناصر البصرية والسمعية يفتح نوافذ جديدة للفهم ويعطي عمقاً أكبر للنقاش.

التوثيق والنشر

يوصى بتوثيق نشاطات المجموعة بشكل منتظم، سواء عبر كتابة ملخصات للنقاشات، أو تسجيل اللقاءات صوتياً أو مرئياً (بموافقة الأعضاء)، أو حتى إنشاء مدونة أو صفحة على منصات التواصل الاجتماعي لمشاركة المحتوى مع جمهور أوسع. هذا التوثيق لا يخدم فقط الأعضاء الحاليين، بل يمكن أن يلهم مجموعات أخرى، ويعزز من الوعي بأهمية القراءة الجماعية، ويعطي المجموعة حضوراً ثقافياً في المجتمع.

تنظيم فعاليات مرافقة

من الأفكار المتميزة التي تعزز نشاط المجموعة تنظيم فعاليات مرافقة مثل مسابقات أدبية، ورش عمل للكتابة الإبداعية، لقاءات مع كُتاب، زيارات إلى معارض الكتب، أو تخصيص جلسات لمناقشة اقتباسات سينمائية عن الكتب التي تمت قراءتها. هذه الفعاليات تمنح المجموعة طابعاً ديناميكياً وتخلق تجربة ثقافية شاملة تتجاوز مجرد القراءة إلى التفاعل الثقافي العميق.

الجدول النموذجي لتسيير مجموعة قراءة

التحديات التي قد تواجه المجموعات

قد تواجه مجموعة القراءة بعض التحديات مثل انخفاض الحماس بعد فترة من الزمن، أو عدم الالتزام بالقراءة من قبل بعض الأعضاء، أو سيطرة بعض الشخصيات على الحوار. لمواجهة هذه التحديات، يجب أن يكون هناك قدر من المرونة في إدارة اللقاءات، والحرص على تنويع المحتوى والأنشطة، وتشجيع التقدير المتبادل بين الأعضاء، وتوزيع الأدوار بشكل دوري لتعزيز الشعور بالانتماء والمسؤولية.

خلاصة

إن تأسيس مجموعة ناجحة لمناقشة الكتب ليس مهمة عابرة بل هو مشروع ثقافي يحتاج إلى تخطيط وعناية مستمرة. يقوم على أساس الحب المشترك للقراءة، والرغبة في تبادل الأفكار، والانفتاح على الآخر، والالتزام الجماعي. وكلما كانت الأسس التي بُنيت عليها المجموعة قوية وواضحة، زادت فرصتها في الاستمرار والتأثير. فمجموعة القراءة الناجحة ليست مجرد مكان للحديث عن الكتب، بل فضاء حيوي يتشكل فيه الوعي، وتتلاقى فيه العقول، ويزدهر فيه الفكر.

المصادر والمراجع:

• المعهد العربي للقراءة والتنمية الثقافية

• دراسة حول أثر مجموعات القراءة على تنمية المهارات الاجتماعية، مجلة التربية والثقافة 2020

• مقابلات مع أعضاء مجموعات قراءة محلية في السعودية ومصر

• تجارب موثقة من نوادي القراءة على منصة Goodreads

• “القراءة الجماعية: وسيلة فعالة للارتقاء الثقافي” – مركز الكتاب العربي