النظرية الصينية في التوحد

النظرية الصينية عن التوحد: تأملات علمية وثقافية في فهم الاضطراب

يُعد اضطراب طيف التوحد (ASD) من أكثر الاضطرابات العصبية النمائية تعقيدًا وإثارة للجدل في مجالات الطب، علم النفس، وعلم الأعصاب. في حين أن الغرب قد هيمن تاريخيًا على إنتاج الأبحاث المتعلقة بالتوحد، فقد ظهرت مقاربات فكرية وعلمية متميزة من حضارات أخرى، من بينها النظرية الصينية التي تقدّم زاوية تحليلية مختلفة للتوحد، تقوم على أسس تجمع بين الطب التقليدي الصيني، الفلسفة الكونفوشيوسية، والمدخلات العلمية الحديثة.

أولاً: السياق الثقافي لفهم التوحد في الصين

لفهم النظرية الصينية حول التوحد، يجب البدء بإدراك الإطار الثقافي والمعرفي الذي تتبلور فيه. فالثقافة الصينية التقليدية لا تفصل الجسد عن الروح، ولا تنظر إلى الإنسان كآلة عضوية فقط، بل تعتبر أن التوازن بين قوى “الين” و”اليانغ” وتدفق “الطاقة الحيوية” أو “تشي” (Qi) يشكل الأساس لصحة الإنسان النفسية والعضوية. وبالتالي، فإن أي اضطراب سلوكي أو إدراكي يُفسَّر غالبًا على أنه اختلال في هذا التوازن الداخلي.

في هذا السياق، يُنظر إلى التوحد في الطب الصيني التقليدي ليس فقط كاضطراب في النمو العصبي، بل كعلامة على اضطراب في تدفق “التشي” في الجسم، خصوصًا في قنوات الطحال والقلب والكلى، وهي الأعضاء المرتبطة عاطفيًا وفكريًا وفق التصنيف الصيني.

ثانيًا: جذور النظرية الصينية: التوازن الطاقي وتأثير العناصر الخمسة

ترتكز النظرية الصينية على مبدأ العناصر الخمسة (الخشب، النار، التراب، المعدن، والماء) التي تتحكم في وظائف الجسم والعقل. يُعتقد أن كل عنصر يرتبط بعضو داخلي وحالة شعورية معينة. عند الأطفال الذين يظهرون علامات التوحد، يرى الأطباء الصينيون تقليديًا أن هناك اختلالًا في عنصر الماء (المرتبط بالكلى والخوف)، وعنصر التراب (المرتبط بالطحال والتفكير)، مما يؤدي إلى خلل في التركيز، ضعف التفاعل الاجتماعي، وتأخر الكلام.

وبحسب هذه الرؤية، فإن علاج التوحد لا يقتصر على التأهيل السلوكي والمعرفي، بل يجب أن يشمل أيضًا إجراءات لإعادة توازن “التشي” عبر ممارسات الطب الصيني مثل الوخز بالإبر (Acupuncture)، العلاج بالأعشاب، التمارين التنفسية (تشي غونغ)، والتغذية الطاقية.

ثالثًا: الطب الصيني التقليدي والتوحد – التدخلات العلاجية

من أشهر المداخلات الصينية في علاج التوحد:

1. الوخز بالإبر (针灸 – Zhen Jiu):

تشير أبحاث صينية متعددة إلى أن الوخز بالإبر في نقاط محددة مثل GV20 (نقطة على قمة الرأس) وHT7 (مرتبطة بالقلب) يمكن أن يحسّن التركيز ويقلل من سلوكيات التكرار. يُعتقد أن هذه النقاط تنشط المناطق الدماغية المسؤولة عن اللغة والانتباه.

2. الأعشاب الصينية الطبية (中药):

تُستخدم خلائط عشبية تحتوي على جذور الجنزبيل، عشبة “تيان ما” (Gastrodia elata)، و”باي شو” (Atractylodes macrocephala) لتعزيز وظائف الطحال وتقوية الطاقة الداخلية. تشير بعض الدراسات الأولية إلى تحسن في النطق والتفاعل الاجتماعي عند استخدامها.

3. تشي غونغ والتمارين التنفسية:

تهدف هذه التمارين إلى تحسين تدفق الطاقة وتنظيم الجهاز العصبي الذاتي، وتُستخدم للأطفال المصابين بالتوحد كأداة لتهدئة فرط النشاط وتعزيز الانضباط الذاتي.

4. العلاج الغذائي (食疗):

تُصنَّف الأطعمة وفق طبيعتها الطاقية (باردة، ساخنة، مرطبة، مجففة) ويُنصح الأطفال بأطعمة تساعد في تقوية الطحال وتهدئة الجهاز العصبي، مثل الأرز البني، القرع، والتمر الأحمر الصيني.

رابعًا: النظرية الصينية الحديثة – اندماج العلم التقليدي والحديث

ابتداءً من القرن الحادي والعشرين، شهدت الصين تطورًا في الأبحاث المتعلقة بالتوحد، دمجت فيه تقنيات التصوير العصبي والوراثة مع المبادئ القديمة. أشارت أبحاث نُشرت في جامعات صينية مرموقة مثل جامعة بكين وجامعة شنغهاي إلى وجود ارتباط بين بعض السمات الجينية المرتبطة بالتوحد وبين عدم توازن في وظائف الكلى والطحال من منظور الطب الصيني، ما عزز من شرعية هذه المقاربة في بعض الأوساط العلمية.

علاوة على ذلك، أُجريت تجارب سريرية على الأطفال باستخدام توليفات من الأعشاب والوخز بالإبر إلى جانب برامج التأهيل السلوكي الحديثة مثل تحليل السلوك التطبيقي (ABA)، وظهرت نتائج مشجعة على الصعيد السلوكي والمعرفي، رغم الحاجة إلى مزيد من التقييم العلمي الصارم والمستقل.

خامسًا: نظرة فلسفية للتوحد في الثقافة الصينية

تتبنى الفلسفة الصينية، لاسيما الكونفوشيوسية والداوية، موقفًا وجوديًا مختلفًا من الاضطرابات النفسية. فالكونفوشيوسية تمجّد النظام الاجتماعي والانسجام، مما أدى في بعض الأحيان إلى وصم الأطفال المختلفين مثل المصابين بالتوحد. في المقابل، ترى الفلسفة الداوية أن كل كائن له طريقة فريدة في التعبير عن “الطاو”، وبالتالي فإن الاختلاف ليس عيبًا بل تعبيرًا عن التنوع الطبيعي.

هذا التصور بدأ يؤثر تدريجيًا على الخطاب العام في الصين، حيث بدأت تظهر حركات لدعم دمج الأطفال ذوي التوحد في المدارس والمجتمع، والاعتراف بحقوقهم كأفراد فريدين.

سادسًا: المقارنة بين النظرية الصينية والنظريات الغربية

في حين تعتمد النظريات الغربية على التحليل العصبي – البيولوجي للتوحد، مع التركيز على العوامل الوراثية، التركيب الدماغي، والخلل في شبكات التواصل العصبي، تُركز النظرية الصينية على التوازن الطاقي بين الأجهزة الحيوية.

الجدول التالي يلخص أبرز أوجه المقارنة:

سابعًا: الجدل العلمي والنقد

لا تخلو النظرية الصينية من الجدل، خصوصًا من قبل الأوساط الطبية الغربية التي تعتبر أن مفاهيم مثل “الطاقة الحيوية” و”الين واليانغ” تفتقر إلى قابلية القياس التجريبي. ورغم أن بعض الدراسات السريرية تشير إلى تحسنات فعلية في بعض المؤشرات السلوكية لدى الأطفال الذين خضعوا لعلاج صيني تقليدي، إلا أن هذه الدراسات غالبًا ما تُنتقد من حيث التصميم المنهجي وغياب الضوابط الصارمة.

من جهة أخرى، بدأ يظهر تيار علمي عالمي يدعو إلى احترام التكامل بين الطب الغربي والطب الشرقي، لا سيما في الحالات التي لم تُثبت فيها العلاجات الدوائية التقليدية نجاحًا كبيرًا مثل التوحد. تُشجّع هذه المقاربات التكاملية على إدماج العلاجات الصينية كخيار مكمل وليس بديلًا، مع ضرورة متابعة طبية دقيقة ومراقبة فعالية كل تدخل.

ثامنًا: مستقبل النظرية الصينية في معالجة التوحد

في ظل الانفتاح الأكاديمي المتزايد، يبدو أن النظرية الصينية حول التوحد مرشحة لأن تأخذ مكانًا متزايدًا ضمن المنظومة العلاجية العالمية، خصوصًا في مجال الطب التكاملي. الجامعات الصينية تعمل على تطوير دراسات سريرية مزدوجة التعمية تستند إلى المنهج العلمي، في محاولة لجسر الفجوة بين المفاهيم الطاقية التقليدية والمفاهيم البيولوجية الحديثة.

كما ظهرت مبادرات للتعاون بين مراكز بحثية صينية وغربية لتطوير علاجات مختلطة تجمع بين البرامج السلوكية المكثفة والعلاجات الصينية، ما قد يفتح المجال أمام نموذج علاجي أكثر شمولًا وتعددًا.

خاتمة

تُظهر النظرية الصينية عن التوحد كيف يمكن للثقافات المختلفة أن تُثري الفهم البشري للاضطرابات النفسية والعصبية، من خلال تقديم نماذج شمولية تعتمد على التوازن، التكامل بين العقل والجسم، والنظرة الروحية للإنسان. وبينما لا تزال تحتاج هذه النظرية إلى المزيد من الإثباتات العلمية الممنهجة، فإنها تظل واحدة من أكثر المقاربات إثارة للاهتمام في فهم اضطراب لا يزال يكتنفه الكثير من الغموض.

المراجع:

1. Fan, Y. et al. (2021). Traditional Chinese Medicine in Autism Spectrum Disorder: A Review. Chinese Journal of Integrative Medicine.

2. Zhang, X. & Huang, H. (2020). Exploring Qi-Based Interventions for Autism in Modern Clinical Settings. Journal of Traditional Chinese Medical Sciences.