قابلية التأثر الإيجابية

في عالمٍ يزداد فيه الانغلاق العاطفي وتتصاعد فيه نداءات التبلد كوسيلةٍ لحماية الذات، تبرز “قابلية التأثر” كصفةٍ إنسانيةٍ جوهرية يُساء فهمها في كثيرٍ من الأحيان. يُنظر إليها في بعض المجتمعات كعلامة على الضعف أو الهشاشة، بينما في حقيقتها تُعدّ من أعظم قوى الإنسان النفسية والاجتماعية، بل قد تكون أحد الأركان الأساسية للتعاطف، الإبداع، والوعي العاطفي. فأن تكون شخصًا “قابلًا للتأثر” لا يعني بالضرورة أنك هشّ، بل أنك متصل بعمق بمشاعرك ومشاعر الآخرين، وأنك تملك قدرة فريدة على الاستقبال والتفاعل مع المحيطين بك بطريقة إنسانية مرهفة.

تعريف قابلية التأثر

قابلية التأثر هي القدرة على الاستجابة بعمق للمؤثرات النفسية أو الاجتماعية أو الجمالية. وقد تشمل الاستجابة المفرطة للمشاهد الإنسانية، الموسيقى، الأعمال الفنية، المواقف المؤلمة، أو القصص الشخصية للآخرين. الشخص القابل للتأثر يتفاعل مع العالم بحساسية بالغة، وغالبًا ما يمتلك قدرة عالية على الملاحظة الدقيقة والانغماس في التفاصيل الدقيقة التي قد لا ينتبه إليها الآخرون.

وتُصنَّف هذه القابلية ضمن خصائص الشخصية المرتبطة بما يُعرف بـ”الاستجابة العالية للمثيرات العاطفية”، وهو نمط عصبي ونفسي معقّد يشير إلى أن الدماغ يعالج المعلومات الحسية والعاطفية بطريقة أكثر عمقًا من المعتاد.

قابلية التأثر بين الفهم الخاطئ والواقع النفسي

في بيئات اجتماعية تُمجّد القوة العاطفية بمفهومها السطحي القائم على التبلد والانفصال الشعوري، يتم تصنيف الأشخاص الحساسين بأنهم “ضعفاء”، “زائدون عن الحد”، أو “دراميون”. غير أن الأبحاث النفسية تشير إلى العكس تمامًا. تشير دراسة نُشرت في Journal of Research in Personality إلى أن الأشخاص الذين يظهرون مستويات عالية من الحساسية هم أكثر عرضة لتكوين علاقات عاطفية قوية، ويميلون إلى التفوق في الفنون، التعليم، ومجالات الرعاية الاجتماعية. كما أن لديهم قدرة كبيرة على إدراك مشاعر الآخرين دون الحاجة إلى لغة واضحة، بفضل ما يُعرف بـ”الاستدلال الشعوري”.

الجانب الإيجابي لقابلية التأثر

رغم أن قابلية التأثر قد تُشكّل في بعض الأحيان عبئًا نفسيًا، إلا أن لها جانبًا إيجابيًا واسعًا يمكن تلخيصه في النقاط التالية:

1. تعزيز التعاطف والرحمة

الشخص القابل للتأثر يمتلك استجابة فطرية لمعاناة الآخرين، مما يجعله أكثر ميلًا لتقديم المساعدة، الدعم، والاستماع الجيد. هذا يجعله عنصرًا أساسيًا في أي بيئة اجتماعية أو مهنية تتطلب تفاعلاً إنسانيًا، مثل العمل في المجال الصحي، النفسي، أو التعليم.

2. زيادة الإبداع الفني والفكري

أثبتت الدراسات أن هناك علاقة وثيقة بين الحساسية العالية والإبداع. فالتفاعل العميق مع الجمال أو الألم، يوفّر مادة خامًا ثرية للإنتاج الفني والأدبي. الفنانون، الشعراء، الكتّاب، والموسيقيون غالبًا ما يكونون من الأشخاص ذوي الحساسية العالية الذين يستطيعون تحويل مشاعرهم وتجاربهم الداخلية إلى أعمال تهز وجدان الآخرين.

3. الذكاء العاطفي المرتفع

قابلية التأثر تتيح للشخص فهم مشاعره ومشاعر الآخرين بعمق، ما يمنحه قدرة كبيرة على إدارة التفاعلات الإنسانية بشكل فعال، سواء في العلاقات الشخصية أو المهنية. الأشخاص ذوو الذكاء العاطفي غالبًا ما ينجحون في أدوار القيادة والتواصل بسبب قدرتهم على التعامل مع الناس بطريقة متزنة ومبنية على الفهم العاطفي الحقيقي.

4. الانتباه للتفاصيل والتفكير العميق

من الصفات الملازمة لقابلية التأثر، قدرة الشخص على ملاحظة تفاصيل صغيرة في السلوكيات أو التغيرات البيئية، والتي قد تمر دون ملاحظة لدى الآخرين. هذا الانتباه يساعد في اتخاذ قرارات أكثر وعيًا، وتجنب الكثير من المشكلات الناتجة عن التغافل أو الاندفاع.

5. الارتباط العميق بالقيم الأخلاقية

غالبًا ما يكون الأشخاص القابلون للتأثر أكثر التزامًا بالقيم الأخلاقية والإنسانية. فهم يتأثرون بشكل كبير بالظلم، العنف، أو التمييز، مما يدفعهم غالبًا إلى النشاط الحقوقي، الاجتماعي، أو البيئي. هذا النوع من الحساسية يُعد وقودًا أساسيًا لحركات التغيير الاجتماعي.

الجانب العصبي والنفسي لقابلية التأثر

تشير الدراسات العصبية إلى أن الأشخاص الحساسين يمتلكون نشاطًا زائدًا في مناطق معينة من الدماغ مثل اللوزة الدماغية (Amygdala)، المسؤولة عن معالجة المشاعر، والقشرة الحزامية الأمامية (anterior cingulate cortex)، التي ترتبط بالتعاطف وتنظيم المشاعر. هذه البنية العصبية تمنحهم قدرة زائدة على التفاعل العاطفي، لكنها في الوقت نفسه قد تجعلهم أكثر عرضة للتوتر والضغط النفسي، خصوصًا في البيئات المليئة بالصراعات أو الفوضى الحسية.

الفرق بين قابلية التأثر والاضطرابات النفسية

من الضروري التمييز بين قابلية التأثر كصفة نفسية طبيعية، وبين الاضطرابات العاطفية مثل الاكتئاب أو القلق المزمن. قابلية التأثر لا تعني بالضرورة وجود خلل نفسي، بل هي طيف من سمات الشخصية التي قد تتقاطع في بعض الحالات مع اضطرابات إذا لم يتم إدارتها بالشكل المناسب.

جدول يوضح الفروق بين قابلية التأثر والاضطرابات العاطفية:

كيف نحمي قابلية التأثر ونحولها لقوة؟

لتحقيق أقصى استفادة من هذه الصفة النفسية، يجب تبني استراتيجيات نفسية واجتماعية تساعد على حماية هذه الحساسية من التحول إلى عبء. منها:

• تحديد الحدود العاطفية: تعلُّم متى وكيف تتفاعل مع الآخرين دون أن تستهلك نفسك عاطفيًا.

• اختيار البيئات الإيجابية: العمل أو العيش في محيط داعم نفسيًا يُقلل من احتمال التعرض للضغوط المفرطة.

• ممارسة التأمل والوعي الذاتي: تقنيات مثل التأمل واليقظة الذهنية تساعد في تنظيم المشاعر دون كبتها.

• التعبير الإبداعي: استخدام الفن أو الكتابة كوسيلة لتفريغ العواطف بشكل بنّاء.

• طلب الدعم النفسي عند الحاجة: عدم التردد في استشارة مختصين نفسيين عند الشعور بالإرهاق العاطفي المستمر.

قابلية التأثر كأداة للارتقاء الإنساني

في خضم صراعات العصر الحديث، وتحت وطأة التنافسية والتجرد من المشاعر، تُمثّل قابلية التأثر إحدى القيم الإنسانية التي نحتاج إلى استعادتها. فهي تُذكّر الإنسان بجوهره العاطفي، وبالحاجة إلى التفاعل الأخلاقي مع العالم من حوله. ومن خلال تعزيز هذه الخاصية وتقديرها، يمكن للمجتمعات أن تخلق أجيالًا أكثر وعيًا، أكثر تعاطفًا، وأكثر قدرة على الإصغاء والاستجابة بعقلانية وعاطفة معًا.

في النهاية، قابلية التأثر ليست لعنة كما قد يُروّج، بل هي نعمة مركّبة، تحمل في طيّاتها جمالًا داخليًا يُمكن أن يتحوّل إلى قوة هائلة حين يُحتضن ويُفهم ويُستثمر بشكل صحيح.

المراجع:

1. Aron, E. N. (1996). The Highly Sensitive Person. Broadway Books.

2. Pluess, M. (2015). Individual Differences in Environmental Sensitivity. Child Development Perspectives, 9(3), 138–143.

3. Greven, C. U., et al. (2019). Sensory Processing Sensitivity in the Context of Environmental Sensitivity. Scientific Reports, 9(1), 1-11.

4. Jung, C. G. (1921). Psychological Types. Princeton University Press.

5. Zeff, T. (2004). The Highly Sensitive Person’s Survival Guide. New Harbinger Publications.