الشخصية النرجسية والسلوك الإجرامي
تُعد الشخصية النرجسية إحدى الاضطرابات النفسية التي جذبت اهتماماً واسعاً في مجالات علم النفس، حيث يصف هذا الاضطراب الأشخاص الذين يعانون من شعور مفرط بالعظمة وحاجة مستمرة للإعجاب والاعتراف. يظهر لدى الأفراد النرجسيين عدة خصائص سلوكية وشخصية مثل غرور الذات، قلة التعاطف، والاستغلال. ولكن هل يمكن أن يكون هذا الاضطراب مرتبطاً بالسلوك الإجرامي؟ وهل هناك ارتباط بين سمات الشخصية النرجسية وبين ارتكاب الأفعال الإجرامية؟ هذا ما سنتناوله في هذا المقال من خلال تحليل العلاقة بين النرجسية والسلوك الإجرامي بناءً على الأبحاث النفسية والدراسات الحديثة.
أولاً: مفهوم الشخصية النرجسية
تُعرف الشخصية النرجسية وفقاً للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5) بأنها اضطراب في الشخصية يتميز بنمط من العظمة في التفكير والسلوك، والحاجة المستمرة للإعجاب، وعدم التعاطف مع الآخرين. غالباً ما يكون لدى هؤلاء الأفراد شعور مبالغ فيه بأهمية الذات ورغبة قوية في التأثير على الآخرين والحصول على انتباههم. قد يظهر النرجسيون في صورة الأشخاص الذين يتمتعون بالثقة بالنفس والقدرة على التأثير في المحيطين بهم، لكنهم يعانون في الوقت نفسه من هشاشة عاطفية تحت سطح هذا المظهر الخارجي.
تتضمن السمات الأساسية للشخصية النرجسية ما يلي:
-
الشعور بالعظمة: شعور متضخم بأهمية الذات.
-
الانغماس في خيالات النجاح والقوة: الأمل في أن يصبحوا الأكثر تميزًا.
-
الاحتياج المستمر للإعجاب: التوقع من الآخرين منحهم التقدير المستمر.
-
الاستغلال: استخدام الآخرين لتحقيق أهدافهم الشخصية.
-
التعاطف المحدود: قلة القدرة على فهم مشاعر الآخرين والتعامل معها.
-
الغضب عند النقد: ردود فعل مبالغ فيها عند تلقي النقد أو التقييم السلبي.
ثانياً: السلوك الإجرامي
السلوك الإجرامي يشير إلى التصرفات التي تنتهك القوانين أو الأعراف الاجتماعية ويعاقب عليها من قبل السلطات القانونية. ويشمل هذا السلوك مجموعة واسعة من الأفعال مثل السرقة، التلاعب، الاحتيال، العنف، والقتل. إن الأشخاص الذين يرتكبون الأفعال الإجرامية غالباً ما يتسمون بعدم اكتراثهم بالقيم الأخلاقية والاجتماعية، وقد يكون لديهم مشاكل في التحكم في الانفعالات والاندفاع.
يختلف السلوك الإجرامي من شخص لآخر بناءً على مجموعة من العوامل البيئية، النفسية، الاجتماعية، والوراثية. ومن بين هذه العوامل يمكن أن تكون السمات الشخصية، مثل النرجسية، واحدة من المحفزات التي تدفع الأفراد إلى ارتكاب الأفعال الإجرامية.
ثالثاً: العلاقة بين النرجسية والسلوك الإجرامي
هناك العديد من الدراسات التي تشير إلى وجود ارتباط بين الشخصية النرجسية والسلوك الإجرامي. فعلى الرغم من أن ليس كل الأشخاص النرجسيين يرتكبون جرائم، إلا أن سماتهم الشخصية يمكن أن تجعلهم أكثر عرضة للمشاركة في سلوكيات غير قانونية. لفهم هذه العلاقة بشكل أفضل، نحتاج إلى النظر في بعض السمات التي تجعل النرجسيين أكثر ميلاً إلى السلوك الإجرامي.
-
الاستغلال واستخدام الآخرين: الشخصية النرجسية تتميز بالاستغلال المستمر للآخرين لتحقيق مصالحها الشخصية. هذا الاستغلال قد يتخذ شكل الكذب أو الاحتيال أو التلاعب. في سياق الجريمة، قد يتحول هذا الاستغلال إلى أفعال غير قانونية مثل السرقة أو التلاعب بالمال أو القيم.
-
الشعور بالعظمة وقلة التعاطف: النرجسيون غالباً ما يعتقدون أنهم فوق القوانين الاجتماعية والأخلاقية، مما يعزز استعدادهم للانخراط في السلوكيات المحظورة. كما أن قلة التعاطف معهم يجعلهم غير قادرين على الشعور بتأثير أفعالهم على الآخرين، مما يزيد من احتمالية ارتكابهم للأعمال الإجرامية.
-
التحكم في البيئة المحيطة: النرجسيون يسعون دائماً للسيطرة على المحيطين بهم ويشعرون بالتهديد إذا لم يتمكنوا من ذلك. قد يظهر هذا الشعور بالتهديد في سلوكيات إجرامية مثل العنف أو التهديدات لتحقيق السيطرة.
-
الحاجة للإعجاب: النرجسيون عادةً ما يكونون في حاجة ماسة للإعجاب والاهتمام من الآخرين. قد يقودهم هذا إلى ارتكاب أفعال غير قانونية مثل الاحتيال أو الكذب لتحقيق هذا الهدف، أو حتى إلى الإضرار بالآخرين للحصول على هذا الاعتراف والتقدير.
-
الغضب والعنف: في الحالات التي لا يتمكن فيها النرجسي من الحصول على ما يريده أو يتعرض للنقد، قد يظهر سلوك عدواني أو عنيف. هذا الغضب يمكن أن يتسبب في جرائم تتراوح من العنف اللفظي إلى الاعتداء الجسدي، وصولاً إلى الجرائم الأكثر خطورة.
رابعاً: دراسات وأبحاث حول العلاقة بين النرجسية والجريمة
أظهرت بعض الأبحاث أن الأشخاص الذين يعانون من اضطراب الشخصية النرجسية أكثر عرضة للانخراط في سلوكيات إجرامية مقارنة بأفراد آخرين. دراسة أجرتها جامعة “نورث كارولينا” في عام 2014 وجدت أن النرجسيين أكثر احتمالًا للقيام بأعمال احتيالية في مكان العمل أو المشاركة في أنشطة غير قانونية إذا كانت تتماشى مع أهدافهم الشخصية.
من جانب آخر، أوضحت دراسة أخرى نشرتها مجلة “Journal of Abnormal Psychology” أن الأفراد النرجسيين يظهرون استعدادًا أكبر لارتكاب أفعال عدوانية تحت ضغوط اجتماعية أو عند تعريضهم للإحباط، مما يزيد من احتمالية تورطهم في الجرائم ذات الدوافع الانتقامية.
خامساً: النرجسية والسلوك الإجرامي في السجون
في السجون، يُلاحظ أن نسبة الأفراد الذين يعانون من اضطراب الشخصية النرجسية مرتفعة مقارنة ببقية السجناء. يتسم هؤلاء الأفراد بإعادة تفسير أفعالهم الإجرامية على أنها مبررة أو ضرورية لتلبية حاجاتهم الشخصية. هذا التفسير غالباً ما يكون مدعومًا بشعورهم بالعظمة وإحساسهم بأنهم فوق القوانين. كما أنهم في كثير من الأحيان يظهرون ندمًا مزيفًا أو يعبرون عن عدم اكتراث حقيقي لما حدث.
سادساً: علاج الشخصية النرجسية وتجنب السلوك الإجرامي
يعتبر علاج اضطراب الشخصية النرجسية أمرًا صعبًا نظرًا لأن الأشخاص الذين يعانون من هذا الاضطراب غالباً ما يرفضون الاعتراف بمشاكلهم. في بعض الحالات، قد يشمل العلاج العلاجات النفسية مثل العلاج المعرفي السلوكي، الذي يساعد النرجسيين على فهم تأثير سلوكهم على الآخرين وتعلم كيفية التحكم في عواطفهم وتطوير علاقات صحية.
يمكن أن يكون الوقاية من السلوك الإجرامي للنرجسيين أمرًا معقدًا أيضًا، ولكن إذا تم التشخيص المبكر لهذا الاضطراب وتوفير التدخلات المناسبة، فإن ذلك قد يقلل من احتمال انخراطهم في سلوكيات غير قانونية. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يتم العمل على تعزيز المهارات الاجتماعية والانفعالية لدى هؤلاء الأفراد لمساعدتهم على تحسين تفاعلاتهم مع المجتمع.
خاتمة
الشخصية النرجسية والسلوك الإجرامي يرتبطان ببعضهما بشكل معقد، إذ أن سمات الشخصية النرجسية مثل قلة التعاطف، الاستغلال، والشعور بالعظمة قد تجعل الأفراد أكثر عرضة للسلوك الإجرامي. مع ذلك، لا يعني أن كل نرجسي سيصبح مجرمًا، لكن الاضطراب قد يزيد من الاحتمالات في بعض الحالات. معالجة هذه الشخصية تتطلب جهودًا طبية ونفسية متخصصة من أجل تقليل الأضرار التي قد يسببها هؤلاء الأفراد في المجتمع.
