أحمد سحنون: الأديب والشاعر الجزائري الذي قارع الاستعمار بالكلمة والإيمان

يُعد أحمد سحنون أحد أبرز رموز الفكر والأدب والدعوة الإسلامية في الجزائر خلال القرن العشرين، وقد لعب دورًا محوريًا في النضال الثقافي والديني والسياسي ضد الاستعمار الفرنسي، من خلال الكلمة الشعرية والخطاب الإصلاحي العميق. تميز سحنون بقدرته الفريدة على المزج بين التوجهات الدينية والوطنية، مما جعله صوتًا مؤثرًا في حركة الإصلاح وجبهة المقاومة الثقافية. لم يكن مجرد شاعر أو كاتب، بل كان حاملًا لرسالة حضارية وثقافية، سعى من خلالها إلى إعادة الاعتبار للهوية الجزائرية المهددة بالتلاشي تحت وطأة الاحتلال وسياسات الطمس الثقافي الممنهج.

النشأة والبدايات

ولد أحمد سحنون سنة 1907 بقرية ليشانة في ولاية بسكرة جنوب الجزائر، وهي منطقة عُرفت بتقاليدها الدينية والصوفية العريقة، مما أسهم في تشكيل وجدانه الروحي والثقافي منذ طفولته. تلقى تعليمه الأولي في الكتاتيب القرآنية، قبل أن ينتقل إلى مدينة قسنطينة حيث التحق بجامع سيدي قموش، ثم ارتبط لاحقًا بحلقة العلامة عبد الحميد بن باديس، المؤسس الفعلي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والتي كان لها بالغ الأثر في مسيرته الفكرية والدعوية.

تفتّح وعيه في بيئة مشبعة بالروح الوطنية والدينية، حيث شكّل التلاقي بين الإسلام والهوية الجزائرية جوهر اهتماماته، وهو ما انعكس في شعره ومقالاته لاحقًا. وقد واصل دراسته باللغة العربية والعلوم الإسلامية، متحديًا بذلك الهيمنة الثقافية الفرنسية التي كانت تسعى إلى فرنسة التعليم واستبعاد اللغة العربية من المشهد العام.

الانخراط في الحركة الإصلاحية

كان أحمد سحنون أحد أوائل المنضمين إلى صفوف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تأسست سنة 1931، والتي قادها الإمام عبد الحميد بن باديس، وتبنت مشروعًا طموحًا لإحياء الهوية الإسلامية والعربية في الجزائر. وقد أسهم سحنون في الأنشطة الدعوية والتعليمية، وكرّس حياته للوعظ والإرشاد، فدرّس في المدارس الحرة التي أسستها الجمعية، وألقى الخطب الدينية في المساجد، ونشر المقالات الأدبية والفكرية في الصحف التابعة للجمعية مثل “البصائر”.

لم يكن سحنون مجرد تابع للحركة الإصلاحية، بل كان فاعلًا فيها، وقد تميز بأسلوبه الأدبي الراقي الذي جعل خطبه ومقالاته ذات وقع خاص على القارئ والمتلقي. كما اشتهر بنبرته الهادئة العميقة التي تدعو إلى النهوض والوعي دون تشنج، مع حفاظه الدائم على الثوابت الإسلامية والعربية.

أحمد سحنون والأدب المقاوم

لم يكن الأدب في حياة أحمد سحنون ترفًا فكريًا، بل كان أداة نضال بامتياز. فقد جسّد في قصائده معاناة الشعب الجزائري تحت الاحتلال الفرنسي، مستنهضًا فيه روح المقاومة والإيمان بقضية التحرر. كتب عن السجن، عن المعاناة، عن الوطن الجريح، وعن الأمل في مستقبل يعيد للجزائر كرامتها وسيادتها.

في العام 1951، صدر ديوانه الشعري الأول بعنوان “الشهاب”، وهو عنوان ذو دلالة رمزية كبيرة، إذ يشير إلى النور الذي يخترق الظلام، تمامًا كما أراد شعره أن يكون قبسًا من نور وسط ليل الاحتلال البهيم. اشتملت قصائد الديوان على مواضيع متعددة، أهمها حب الوطن، الإيمان، الأخلاق، وقضايا الأمة الإسلامية، وقد برزت فيه نزعة إسلامية واضحة، تجعل من الشاعر ليس فقط ناقدًا اجتماعيًا بل مصلحًا دينيًا يحمل رسالة هادفة.

مثّلت تجربة سحنون الشعرية نوعًا من الالتزام الوطني والديني، حيث لم يغرق في التجريد أو الغزل أو الموضوعات الذاتية، بل جعل من القصيدة منبرًا للدعوة والتنوير، مُرسخًا بذلك تقليدًا جديدًا في الشعر الجزائري المقاوم.

مواقفه السياسية واعتقاله

تجلّت مواقف أحمد سحنون السياسية من خلال تأييده الواضح للثورة الجزائرية المسلحة التي انطلقت عام 1954، حيث رأى فيها تتويجًا طبيعيًا للمسار الإصلاحي والنضالي الذي بدأه العلماء والمفكرون منذ عقود. وقد دفع ثمن مواقفه هذا غاليًا، إذ اعتُقل سنة 1956 من طرف سلطات الاحتلال الفرنسي، وزُجّ به في السجن دون محاكمة، فقط بسبب مواقفه الفكرية وخطبه التي تدعو للحرية والاستقلال.

قضى سحنون أكثر من عام في المعتقل، وقد مثّلت هذه الفترة محطة مؤلمة في حياته، لكنها زادته إيمانًا بعدالة قضيته، كما ألهبت شاعريته، فكتب قصائد مؤثرة من داخل السجن، تصف حال السجين وتبشر بالتحرر القادم. بعد خروجه، واصل نشاطه الوطني والديني، ورفض المساومة على مبادئه، وظل يدعو إلى دعم الثورة حتى الاستقلال.

دوره بعد الاستقلال

بعد نيل الجزائر استقلالها عام 1962، لم يركن أحمد سحنون إلى الراحة أو التقاعد الفكري، بل شارك بفعالية في بناء الدولة الوطنية الحديثة. واصل نشاطه في المجال الديني، وعُيّن لاحقًا إمامًا للجامع الكبير بالعاصمة الجزائرية، وهو منبر واصل من خلاله أداء رسالته الدعوية والتربوية.

كما تولى رئاسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مرحلة لاحقة من حياته، خصوصًا بعد عودة نشاطها في ثمانينيات القرن العشرين، حيث لعب دورًا بارزًا في إعادة إحياء روح الجمعية، والتأكيد على مبادئها الأساسية القائمة على الاعتدال والوسطية والتمسك بالهوية الإسلامية.

كان خطابه بعد الاستقلال متوازنًا، يدعو إلى البناء الأخلاقي والثقافي للإنسان الجزائري، محذرًا من الانحرافات الإيديولوجية والتغريب الممنهج. وقد نبه في كثير من خطبه إلى خطورة الابتعاد عن تعاليم الإسلام، مؤكدًا على ضرورة التمسك بالمرجعية الإسلامية كضمانة لنهضة المجتمع.

السمات الأدبية والفكرية في أعماله

تميزت أعمال أحمد سحنون الأدبية بمجموعة من السمات التي جعلت منها علامة فارقة في الأدب الجزائري الحديث، وفيما يلي أهم هذه السمات:

الإنتاج الشعري والفكري

إلى جانب ديوانه الشعري “الشهاب”، أصدر أحمد سحنون عدة أعمال نثرية تناول فيها قضايا فكرية ودينية وأخلاقية، من أبرزها:

• “تأملات إسلامية”: مجموعة مقالات فكرية تتناول قضايا العقيدة والأخلاق والعمل الصالح.

• “خواطر داعية”: كتاب يحمل خلاصة تجاربه في الدعوة والإصلاح، ويعكس رؤيته حول التربية والدين والمجتمع.

• “ذكريات من السجن”: شهادات مؤثرة عن تجربته خلال الاعتقال، تكشف عن معاناة السجناء الجزائريين وتظهر الجانب الإنساني العميق في شخصيته.

مكانته في المشهد الثقافي الجزائري

يُعتبر أحمد سحنون اليوم من أبرز أعمدة الأدب الجزائري المكتوب بالعربية، وقد أسهم في إثراء هذا الأدب بمضامين أخلاقية ووطنية وروحية. ويمثل نموذجًا للكاتب الملتزم، الذي اختار أن يكون صوتًا لقضية شعبه لا مجرد مبدع يبحث عن المجد الأدبي.

وقد نال تقديرًا واسعًا في الأوساط الأدبية والدينية، كما أُدرجت بعض أعماله في البرامج التعليمية، وأطلقت اسمه على مؤسسات تعليمية ومساجد في الجزائر، تخليدًا لذكراه ولأثره الكبير في الوعي الوطني والديني.

وفاته وتركته

توفي أحمد سحنون في 12 ديسمبر 2003 عن عمر ناهز 96 عامًا، بعد حياة حافلة بالعطاء والنضال والتربية والتعليم. وقد شيّعه الآلاف من الجزائريين في جنازة مهيبة، عكست مكانته في قلوب الناس، لا فقط كشاعر وأديب، بل كرمز وطني وديني جامع.

ترك وراءه إرثًا فكريًا وأدبيًا غنيًا، لا يزال يشكل مرجعًا هامًا للباحثين في مجالات الأدب الإسلامي، والدعوة، وتاريخ الحركة الإصلاحية في الجزائر. كما أن مؤلفاته لا تزال تدرّس وتُقرأ، بما تحمله من قيم ورسائل إنسانية راقية.

الخلاصة

أحمد سحنون ليس مجرد اسم في سجل الأدب الجزائري، بل هو ضمير حيّ لأمة قاومت الاحتلال بالكلمة كما قاومته بالبندقية. شكّل نموذجًا للأديب الملتزم الذي لا ينفصل عن قضايا شعبه، وكرّس حياته للدعوة إلى الخير والصلاح، وساهم بقوة في حماية الهوية الوطنية من محاولات الطمس والفرنسة. وتبقى كتاباته إلى اليوم شاهدة على مرحلة مفصلية من تاريخ الجزائر الحديث، وعلى صمود الكلمة أمام الطغيان.

المصادر

1. ابن باديس، عبد الحميد. آثار الإمام ابن باديس. دار الغرب الإسلامي، بيروت.

2. سحنون، أحمد. الشهاب: ديوان شعري. دار الأمة، الجزائر.