فن التعامل مع الأشخاص الصعبين

فن التعامل مع من لا نطيقهم

في الحياة اليومية، لا يسلم أحد من التعامل مع أشخاص يختلف معهم فكريًا أو سلوكيًا أو حتى نفسيًا. سواء في بيئة العمل، أو داخل الأسرة، أو في الدوائر الاجتماعية، تُفرض علينا أحيانًا علاقات مع أفراد يصعب التفاعل معهم بسهولة. قد يكون السبب هو التباين في القيم، أو الطباع، أو أسلوب التواصل، أو حتى التاريخ المشترك الذي يحمل توترات لم تُحل. إلا أن التحدي الحقيقي لا يكمن في تجنب هؤلاء الأشخاص، بل في تعلم كيفية التعامل معهم بذكاء وحكمة، دون أن نفقد توازننا النفسي أو نضر بعلاقاتنا أو سمعتنا. ذلك ما يُعرف بفن التعامل مع من لا نطيقهم.

مفهوم “عدم الطيق” وأبعاده النفسية

يشير الشعور بعدم طيقان شخص ما إلى مزيج من النفور العاطفي والرفض العقلي له. وهو شعور طبيعي يختبره الجميع بدرجات متفاوتة. وغالبًا ما يتولد هذا النفور من عوامل مثل:

• الاختلاف القيمي العميق: كأن يكون الشخص كاذبًا، متكبرًا، أو مستغلًا.

• السلوكيات السلبية المتكررة: كالمقاطعة الدائمة، التذمر، العدوانية أو النرجسية.

• الطاقة السلبية أو الحضور المزعج: البعض قد يملك حضورًا خانقًا يشعر من حوله بعدم الراحة حتى دون تفاعل مباشر.

• الخبرات السابقة: مثل التعرض للأذى أو الإهانة من طرف ذلك الشخص، أو ارتبطه بمواقف مؤلمة.

• الإسقاط النفسي: أحيانًا لا نطيق شخصًا لأنه يذكّرنا بجانب لا نحبه في أنفسنا.

إن فهم هذه الأسباب خطوة أولى نحو التعامل الناضج، لأنه يساعدنا على التمييز بين ما هو ذاتي (متعلق بنا نحن) وما هو موضوعي (متعلق بالفعل بسلوك الآخر).

أهمية إتقان فن التعامل مع من لا نحبهم

القدرة على التعامل مع أشخاص لا نرتاح لهم تعكس مستوى متقدمًا من الذكاء العاطفي والنضج النفسي، وهي مهارة لا غنى عنها في حياة كل إنسان. فالعالم لا يُصاغ على مقاسنا، ولن يكون كل من حولنا على هوانا. كما أن قطع العلاقات أو التصعيد الدائم يؤدي إلى أزمات، خاصة في محيط العمل أو الأسرة. من هنا تتجلى ضرورة إتقان هذا الفن من أجل:

• الحفاظ على التوازن النفسي والشخصي.

• تفادي الصراعات غير الضرورية.

• تحقيق أهدافنا المهنية والاجتماعية.

• تعزيز السلام الداخلي.

• بناء صورة ناضجة وقوية عن الذات.

استراتيجيات فعالة للتعامل مع من لا نطيقهم

1. التحكم في الانفعالات

أول مهارة ينبغي اكتسابها هي ضبط النفس والتحكم في الانفعالات. فالغضب وردود الفعل التلقائية لن تزيد الأمور إلا تعقيدًا. التنفس العميق، التأمل، وتمارين التركيز الذهني تساعد على تقوية هذه القدرة. الردود الباردة والواضحة غالبًا ما تكون أقوى من الانفجارات العاطفية.

2. الفصل بين الشخص والسلوك

ليس كل ما نكرهه في الشخص ينبع من جوهره، بل قد يكون مجرد سلوك مكتسب أو ناتج عن ظروف حياتية صعبة. عندما نستطيع أن نُفرّق بين الإنسان وتصرفاته، يصبح بإمكاننا التعامل مع الموقف بموضوعية دون الانجرار إلى الكراهية أو الرفض المطلق.

3. تقليل الاحتكاك قدر الإمكان

في بعض الأحيان، لا يُشترط أن نواجه الشخص بشكل مباشر أو ندخل في نقاشات حادة. يمكننا ببساطة تقليص مساحة التفاعل معه، وإبقاء العلاقة في حدود المهنية أو الضرورة فقط، دون الانخراط العاطفي أو الشخصي.

4. استخدام الذكاء العاطفي

الذكاء العاطفي لا يعني إخفاء المشاعر، بل إدارتها بوعي. عندما نفهم احتياجات الآخر وندرك دوافعه، نستطيع تجنب التصعيد. كما أن استخدام كلمات مهذبة، نبرة صوت محايدة، وتواصل بصري معتدل يمكن أن يحدّ من التوتر في العلاقة.

5. التركيز على الهدف وليس الشخص

في العمل مثلاً، من الأفضل أن نركز على إنجاز المهام بدل الانشغال بالشخصيات التي لا نرتاح لها. عندما نضع الهدف نصب أعيننا، تتضاءل أهمية المشاعر الشخصية، ونتعامل بمرونة واحترافية.

6. استخدام أسلوب التدرج في التعامل

لا يُشترط أن نتصرف بطريقة واحدة دائمًا. يمكن أن نبدأ بالتسامح، ثم التجاهل، ثم المواجهة الهادئة إذا لزم الأمر. هذا التدرج يتيح لنا قراءة الموقف وتحسين استجابتنا بناءً على تطوره.

تقنيات إضافية للتعامل البنّاء مع من يصعب تقبّلهم

تقنية “التأطير النفسي الإيجابي”

هي تقنية تعتمد على إعادة صياغة الموقف داخليًا. بدل أن نقول: “لا أتحمل فلان”، يمكننا أن نقول: “هذا الشخص يشكّل تحديًا لتطوير صبري ومهاراتي في التواصل”. تغيير النظرة يُغيّر المشاعر والاستجابات.

تقنية “المسافة النفسية”

أحيانًا يكون الحل في خلق مسافة ذهنية مع الشخص دون تغيير المسافة الفيزيائية. أي أن نستحضر وعيًا داخليًا بأن ما يصدر عنه لا يعنينا بالضرورة، وأنه حر في تصرفاته طالما لا يؤذينا بشكل مباشر.

تقنية “التفريغ العاطفي الآمن”

من المهم أن لا نكبت مشاعرنا السلبية بالكامل. يمكننا تفريغها بطريقة صحية مثل: الكتابة، المشي الطويل، التحدث إلى شخص موثوق، أو حتى البكاء إذا استدعى الأمر. ذلك يُجنبنا الانفجار المفاجئ في وجه الطرف الآخر.

تقنية “المراقبة بدون تفاعل”

مراقبة تصرفات الشخص وتحليلها دون الانجرار إلى مشاعر آنية يخلق نوعًا من النضج التحليلي. نسجل ملاحظات ذهنية عن أنماط تكررت منه تساعدنا لاحقًا في توقع تصرفاته، وبالتالي نحمي أنفسنا من المفاجآت غير السارة.

التعامل مع الفئات الخاصة من الأشخاص غير المحبوبين

البعد الروحي والأخلاقي في التعامل مع من لا نحبهم

في منظومات القيم الإنسانية والدينية، نجد دعوة دائمة إلى التعامل بالحكمة والصفح. فالعداوة لا تقابل بالعداوة بل بالحلم. يقول الله تعالى:

“ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم” [فصلت: 34]

وهو توجيه لا يدعو إلى التنازل، بل إلى التسامي. فالتعامل مع من لا نحبهم قد يكون امتحانًا لقيمنا وسلوكنا أكثر منه استحقاقًا للآخر. الصبر، التسامح، وحفظ اللسان من اللغو كلها علامات على القوة النفسية لا الضعف.

أثر هذا الفن على النفس والمجتمع

عندما يتقن الإنسان هذا الفن، ينعكس ذلك على:

• تحسن علاقاته الشخصية والمهنية.

• الارتقاء بتواصله مع الآخرين دون صراعات مرهقة.

• الحفاظ على الطاقة النفسية للاستثمار في علاقات بنّاءة.

• تحقيق حالة داخلية من السلام والطمأنينة.

• الإسهام في بيئة أكثر نضجًا واحترامًا للاختلاف.

خاتمة

فن التعامل مع من لا نطيقهم ليس استسلامًا ولا نفاقًا، بل مهارة تعكس عمقًا داخليًا وتوازنًا نفسيًا. هو التحدي الذي يحوّل النفور إلى فهم، والانزعاج إلى تدريب، والاحتكاك إلى فرصة للتطور. في عالم لا يخلو من التنوع والاختلاف، تبقى القدرة على احتواء العلاقات المعقدة من أرقى ما يمكن أن يبلغه الإنسان في مسيرته الإنسانية والاجتماعية.

المراجع:

• Daniel Goleman, Emotional Intelligence, Bantam Books, 1995.

• Dale Carnegie, How to Win Friends and Influence People, Simon and Schuster, 1936.