من أول من قال الشعر: رحلة في بدايات الشعر وأصوله التاريخية واللغوية

يُعد الشعر من أقدم الفنون التي عبّر بها الإنسان عن مشاعره، وصوّر بها أفكاره، ونقل من خلالها رؤيته للعالم، وجسّد تجاربه الحياتية بمختلف أشكالها. وقد حظي الشعر بمكانة عظيمة في الحضارات القديمة، وخصوصًا في الثقافة العربية التي تميزت بغزارة إنتاجها الشعري وثرائه البلاغي. ولكن، في سياق دراسة تطور الشعر، يطرح سؤال جوهري طالما راود المؤرخين والأدباء: من هو أول من قال الشعر؟ هذا التساؤل ليس مجرد فضول معرفي، بل يكشف عن حاجة معرفية لفهم الجذور الأولى لهذا الفن، وتتبّع نشأته في سياقاته الزمنية واللغوية والحضارية.

الشعر في فجر الإنسانية

من المستحيل التحديد بدقة متى وأين بدأ الشعر، لأن الشعر في جوهره يرتبط باللغة، واللغة نفسها تعود إلى بدايات ما قبل التاريخ. ومع ذلك، تشير الدراسات اللغوية والأنثروبولوجية إلى أن الإنسان استخدم الشعر قبل أن يكتب. كان الشعر يُقال شفهيًا، وغالبًا ما كان يُرتل ويُغنّى، مما سهّل حفظه ونقله عبر الأجيال.

في الحضارات القديمة مثل السومرية، والأكادية، والمصرية، واليونانية، نجد نصوصًا شعرية تعود إلى آلاف السنين قبل الميلاد. ومن أقدم النماذج الشعرية المكتشفة ما يعرف بـ”ملحمة جلجامش”، التي تعود إلى الحضارة السومرية في بلاد الرافدين، وتُعد من أقدم النصوص الأدبية المعروفة، ويُقدّر تاريخها بحوالي 2100 سنة قبل الميلاد.

الشعر في التراث العربي قبل الإسلام

بالنسبة للثقافة العربية، يحتل الشعر الجاهلي موقعًا مركزيًا في ذاكرة العرب وتاريخهم الثقافي. فقد كان الشعر وسيلة العرب الأولى للتعبير عن النفس، وتخليد المآثر، وسرد الوقائع، ومدح الكرماء، وهجاء الأعداء، ووصف الطبيعة، والتغني بالمحبوبة. وكان يُعد سجلًّا يؤرّخ لحياة القبائل ويُشكّل رصيدها الرمزي والمجتمعي.

يُجمع المؤرخون العرب أن الشعر الجاهلي سبق الإسلام بقرون طويلة، وقد تطوّر ضمن تقاليد قبلية وشفوية صارمة. ومن أوائل الشعراء المعروفين في التراث الجاهلي: المهلهل بن ربيعة، وقد لقّبه بعض المؤرخين بـ”أول من قال الشعر العربي”. وقد عاش المهلهل في القرن الخامس الميلادي، ويُنسب إليه دور كبير في تطوير القصيدة العربية إلى شكلها التقليدي المعتمد على الوزن والقافية.

المهلهل بن ربيعة: الأسطورة والبداية

يشير الكثير من الرواة إلى أن المهلهل بن ربيعة التغلبي، هو أول من قال الشعر العربي “الموزون المقفى”، ويُقال إن العرب قبل المهلهل لم يكونوا يعرفون الأوزان الشعرية، وإن ما كان يُقال قبل عصره هو كلام مسجوع دون التزام بوزن أو بحر. وتُروى حول المهلهل قصص وأساطير ترتبط بثأر أخيه كليب في حرب البسوس الشهيرة، وقد استخدم الشعر سلاحًا للتأثير والتحريض، كما استخدمه وسيلة للتعبير عن الحزن والحكمة والانتصار.

لكن النظرة الحديثة لعلم الشعر تُشكك في هذا الطرح، إذ أن التدوين المتأخر للشعر الجاهلي، واعتماده على الذاكرة الشفوية، يجعل من الصعب الجزم ببدايات حقيقية واضحة. وربما يكون المهلهل هو أول من دُوِّن شعره أو أول من وصلنا اسمه مقرونًا بقصائد محفوظة، لا أول من قال الشعر بالمعنى المطلق.

نظرة نقدية إلى الروايات التقليدية

الكثير من المصادر التراثية مثل “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني، و”طبقات فحول الشعراء” لابن سلام الجمحي، تعتمد على الرواية الشفوية في توثيق الشعر الجاهلي. ونتيجة لذلك، فإنّ تحديد الشاعر الأول بدقة يُعد أمرًا عسيرًا بسبب غياب الوثائق المكتوبة والمخطوطات التي تُثبت أسبقية شاعر على آخر بشكل قطعي.

وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الشعر الجاهلي الذي نُسب إلى المهلهل وغيره من أوائل الشعراء قد يكون من إنتاج مراحل لاحقة، نُسب إليهم لأغراض أدبية أو سياسية. ولذلك يُفرّق الدارسون بين “القول الشعري الأول” و”الشاعر الأول المعروف”.

أقدم الملاحم والنصوص الشعرية في العالم

في سياق عالمي، تُعتبر ملحمة “جلجامش” السومرية التي كُتبت على ألواح طينية باللغة الأكدية، من أوائل النصوص الشعرية في التاريخ المدون. وتأتي بعدها نصوص شعرية من مصر القديمة مثل “أنشودة إخناتون” التي تُعد من أوائل المقطوعات الدينية المنظومة. وفي الهند، يظهر “الريغ فيدا”، أحد أقدم النصوص الدينية الهندوسية المكتوبة بلغة السنسكريتية، ويحتوي على أناشيد شعرية تعود إلى حوالي 1500 سنة قبل الميلاد.

كما تضم الحضارة اليونانية القديمة ملاحم شعرية خالدة مثل “الإلياذة” و”الأوديسة” المنسوبتين لهوميروس، ويُعتقد أنهما كُتبتا في القرن الثامن قبل الميلاد، على الرغم من أن المحتوى أقدم بكثير ويعود إلى التقاليد الشفوية.

الشعر في المجتمعات الشفوية

تُظهر التجارب الإنسانية في مختلف أنحاء العالم أن الشعر وُجد في كل حضارة نطقت بلغة. ويُعتبر الشعر أول أشكال الأدب في المجتمعات الشفوية. وقد خُلق ليس فقط لأغراض جمالية، بل كان يحمل مهامًا اجتماعية، مثل حفظ التاريخ، والتعليم، والترفيه، والتوثيق. لذا فإن القول بأن شخصًا واحدًا هو “أول من قال الشعر” يُعد تبسيطًا شديدًا لتاريخ معقد ومتداخل.

الجدول الزمني لبدايات الشعر عبر الحضارات

دور الشعر في تشكيل الهوية الثقافية

الشعر، منذ نشأته الأولى، لم يكن مجرّد وسيلة ترفيه أو تعبير عن العاطفة، بل شكّل بنية أساسية في تكوين الوعي الثقافي للجماعات. ففي المجتمعات العربية الجاهلية، كان الشاعر بمثابة “لسان القبيلة”، وصوته يعبّر عنها في السلم والحرب، ويُعد كلامه قانونًا شعريًا يحظى بتقدير يتجاوز أحيانًا صوت شيخ القبيلة ذاته.

هذا الدور الحيوي جعل من الشعر فنًا متجذرًا في الوعي الجماعي، وساعد على تشكيل رؤية العرب لأنفسهم، وللعالم من حولهم، وعكس مفاهيمهم عن الشرف، البطولة، الجمال، والكرم. وكلما تطورت اللغة تطور الشعر معها، فظهر في صور متعددة مثل المعلقة، والقصيدة العمودية، والدوبيت، والزجل، حتى بلغ مراحل متقدمة في العصور الإسلامية والحديثة.

تطور الشعر من الشفاهية إلى التدوين

النقلة النوعية في تاريخ الشعر جاءت مع التدوين، حين بدأ العرب في العصر الإسلامي بكتابة الشعر وتوثيقه. وقد لعب القرآن الكريم دورًا محوريًا في حفظ اللغة العربية وتثبيت قواعدها، مما مكّن الشعراء من تطوير بنية القصيدة العربية الكلاسيكية.

ثم جاء عصر التدوين في القرن الثاني والثالث الهجري، حيث بدأت تظهر دواوين الشعراء، وتم جمع الشعر الجاهلي والإسلامي، وظهرت كتب مثل “المفضليات”، و”الأصمعيات”، و”ديوان الحماسة”، مما أتاح للشعر أن يُخلّد ويُدرس بشكل منهجي.

الخاتمة: الشعر كنشاط إنساني لا بداية له

يمكن القول إن الشعر لا يُنسب إلى فرد بعينه، بل هو نتاج لتطور اللغة والوعي البشري، وجاء تعبيرًا عن الحاجة الفطرية لدى الإنسان للغناء والتعبير والإبداع. ورغم أن المهلهل يُعد رمزًا عربيًا يُنسب إليه الفضل في ترسيخ بنية القصيدة العربية، إلا أن هناك شعراء سبقوه في حضارات أخرى بأزمنة طويلة، مما يدل على أن الشعر لم يكن ملكًا لحضارة دون أخرى، بل كان مشتركًا إنسانيًا عبر الزمن.

المصادر:

• ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء.

• جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام.