عدد المسلمين في بورما: تاريخ طويل من المعاناة والوجود
تُعد بورما أو ميانمار، كما هي معروفة رسميًا الآن، إحدى الدول ذات التاريخ المعقد والمضطرب فيما يتعلق بالمجموعات العرقية والدينية. من بين هذه المجموعات، يشكل المسلمون فئة دينية هامة ولكن مظلومة في الكثير من الأوقات. على الرغم من تاريخ طويل من الوجود في المنطقة، فإن المسلمين في بورما (ميانمار) يواجهون تحديات كبيرة من حيث الحقوق والحريات. في هذا المقال، نلقي الضوء على عدد المسلمين في بورما، تاريخهم، والأوضاع الحالية التي يواجهونها.
التاريخ الإسلامي في بورما
لقد بدأت العلاقة بين المسلمين وبورما في وقت مبكر من التاريخ، حيث تشير بعض المصادر إلى أن المسلمين قد وصلوا إلى هذه المنطقة منذ القرن السابع الميلادي من خلال التجارة والهجرات. في ذلك الوقت، كانت بورما جزءًا من حضارات هندية وشرق آسيوية متعددة، وكان المسلمون في البداية يمثلون أقلية صغيرة من بين مختلف الشعوب التي تعيش في المنطقة.
خلال القرون الوسطى، تزايد عدد المسلمين في بورما نتيجةً لعدة عوامل، أهمها التجارة عبر بحر أندامان ووجود ممالك إسلامية بالقرب من المنطقة. كذلك، شهد القرن الرابع عشر وصول التجار العرب والمغاربة الذين أسهموا في توطيد العلاقة بين المسلمين ومناطق بورما الساحلية، وخاصة في مناطق مثل أركان (Rakhine).
على الرغم من كون الإسلام قد وصل إلى بورما في وقت مبكر، فإن فترة الحكم الاستعماري البريطاني في القرن التاسع عشر كانت أحد المحطات الهامة في تاريخ المسلمين في البلاد. فقد أدخل الاستعمار البريطاني العديد من المسلمين من الهند ومناطق أخرى للعمل في الأراضي البورمية، الأمر الذي ساعد على زيادة أعدادهم في بعض المناطق.
التركيبة السكانية للمسلمين في بورما
بحسب التقارير الإحصائية المختلفة، يُقدر عدد المسلمين في بورما بحوالي 4 ملايين نسمة من إجمالي السكان البالغ عددهم حوالي 54 مليون نسمة. وهذا يشكل حوالي 4-5% من إجمالي سكان البلاد. ومع ذلك، لا توجد إحصاءات دقيقة بشأن عدد المسلمين في بورما، حيث أن الوضع السياسي والاجتماعي المعقد في البلاد يجعل من الصعب الحصول على أرقام دقيقة وموثوقة.
ينتشر المسلمون في بورما بشكل رئيسي في منطقتين رئيسيتين هما:
-
منطقة أركان (Rakhine): وهي المنطقة الأكثر شهرة في سياق الحديث عن المسلمين في بورما، حيث يوجد فيها أكبر تجمع للمسلمين البورميين، الذين يعرفون باسم “الروهينغا”. يقدر عددهم بحوالي مليون مسلم، ويشكلون الأغلبية في مناطق معينة من أركان.
-
المدن الكبرى مثل يانغون (Yangon) وماندالاي (Mandalay): تحتوي هذه المدن على مجتمعات مسلمة أقل عددًا، ولكنها لا تزال تمثل وجودًا مهمًا في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في البلاد.
مسلمو الروهينغا: محنة لا تنتهي
من بين جميع الجماعات المسلمة في بورما، تعتبر أقلية الروهينغا الأكثر تهميشًا ومعاناة. الروهينغا هم مجموعة عرقية مسلمة تتحدث اللغة الروهينغية، وتعتبر تاريخيًا جزءًا من السكان الأصليين في ولاية أراكان (أو راخين). ولكنهم يعانون من تمييز صارخ من قبل الحكومة والمجتمع البورمي، حيث لا يتم الاعتراف بهم كمواطنين بورميين، ويُعتبرون مهاجرين غير شرعيين من بنغلاديش.
تعرضت هذه الأقلية المسلمة لأبشع أنواع الاضطهاد على مدى العقود الماضية، خاصة بعد انقلاب 1962 الذي أدى إلى حكم عسكري صارم في البلاد. ومنذ ذلك الحين، بدأ الروهينغا يعانون من عدة مظالم تشمل حرمانهم من حقوقهم المدنية مثل الحق في التعليم والعمل، وكذلك فرض قيود شديدة على تحركاتهم وتنقلاتهم داخل البلاد. ومع تصاعد الأحداث في العقد الأخير، تدهورت أوضاعهم بشكل كبير، حيث شهدت ولاية أراكان في عام 2017 موجة من العنف المفرط على يد الجيش البورمي، والذي أسفر عن قتل الآلاف من المسلمين الروهينغا وتشريد مئات الآلاف منهم إلى بنغلاديش.
اليوم، يعيش أكثر من 1.1 مليون من الروهينغا في مخيمات اللجوء في بنغلاديش، ويواجهون ظروفًا مأساوية في تلك المخيمات بسبب نقص الخدمات الإنسانية وانتشار الأمراض والمشاكل الاقتصادية.
القوانين والسياسات تجاه المسلمين في بورما
تتبع الحكومة البورمية سياسات معقدة تميز ضد المسلمين بشكل عام، وخاصة الروهينغا. هذه السياسات تتمثل في عدة جوانب:
-
التمييز الديني والعرقي: تعتبر الحكومة البورمية أن المسلمين، وخاصة الروهينغا، ليسوا جزءًا من “الأمة البورمية” بسبب اختلافهم العرقي والديني. وبالتالي، لا يحق لهم الحصول على الجنسية البورمية، ويعيشون في حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي.
-
التعليم والعمل: يواجه المسلمون في بورما صعوبة في الحصول على التعليم العالي في المؤسسات الحكومية، وكذلك في العثور على فرص عمل في القطاعات الحكومية. كما أن التمييز يمتد إلى الحياة اليومية في الأماكن العامة ووسائل النقل وغيرها.
-
الحقوق المدنية: يُمنع العديد من المسلمين، خاصة الروهينغا، من ممارسة شعائرهم الدينية بحرية. على سبيل المثال، لا يُسمح لهم ببناء المساجد أو حتى الصلاة في الأماكن العامة في بعض الحالات.
التحديات والمستقبل
رغم المعاناة المستمرة التي يواجهها المسلمون في بورما، إلا أن هناك بعض الأمل في المستقبل. ففي الآونة الأخيرة، بدأت بعض المنظمات الدولية ومنها الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان في إبراز محنة المسلمين، خاصة الروهينغا، على الساحة الدولية. كما أن بعض الجهات الدولية تدعو إلى فرض ضغوط على الحكومة البورمية لتحسين أوضاع الأقلية المسلمة في البلاد.
مع ذلك، لا تزال التحديات كبيرة للغاية. فالحكومة البورمية ترفض بشكل قاطع أي تدخل خارجي في شؤونها الداخلية، مما يجعل الوضع أكثر تعقيدًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن الانقسامات الدينية والعرقية بين المسلمين والمجتمعات الأخرى في بورما قد تؤدي إلى تصاعد التوترات في المستقبل.
الخلاصة
يمثل المسلمون في بورما جزءًا مهمًا من تاريخ وثقافة البلاد، إلا أنهم يواجهون تحديات كبيرة نتيجة للتمييز الديني والعرقي، خاصة في ما يتعلق بالروهينغا. ورغم أن أعدادهم ليست كبيرة نسبيًا مقارنة ببقية الديانات والمجموعات العرقية، إلا أن المعاناة التي يعيشونها قد جعلت قضيتهم واحدة من أبرز القضايا الإنسانية على الساحة الدولية. إن تحسين أوضاع المسلمين في بورما يتطلب تغييرات جذرية في السياسة الداخلية وفي تعامل الحكومة مع الأقليات الدينية والعرقية، وهو ما يحتاج إلى دعم دولي مستمر وجهود مشتركة لتحقيق العدالة والمساواة.
