تكنولوجيات المعلومات والاتصال والمرأة في تونس: نحو تمكين رقمي شامل ومستدام

مقدمة

شهدت تونس منذ أوائل الألفية الثالثة تحولات عميقة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكان لتطور تكنولوجيات المعلومات والاتصال (ICT) دور محوري في هذه التحولات. لم تكن هذه التغيرات محايدة من حيث النوع الاجتماعي، بل حملت إمكانات هائلة لإعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية وتعزيز المساواة بين الجنسين، خاصة في مجتمع يشهد انتقالًا ديمقراطيًا وتحديثًا اقتصاديًا تدريجيًا.

وفي هذا السياق، أصبحت تكنولوجيات المعلومات والاتصال واحدة من أبرز الوسائل التي يمكن أن تُمكن المرأة التونسية من تجاوز الحواجز التقليدية التي تعيق مشاركتها الكاملة في التنمية. فهذه التكنولوجيات لا تقتصر على كونها أدوات تقنية فحسب، بل هي أيضاً فضاءات تتيح الوصول إلى المعرفة، وتطوير المهارات، والمشاركة في الحياة الاقتصادية والسياسية، والتأثير في الرأي العام، وبناء شبكات اجتماعية ومهنية.

السياق الاجتماعي والسياسي لتونس بعد الثورة

بعد ثورة 2011، دخلت تونس في مسار ديمقراطي فريد في العالم العربي، ما أتاح للمرأة فضاءات جديدة للمشاركة في الحياة العامة، ورافق هذا المسار نمو متسارع في استعمال الإنترنت وتطبيقات الاتصال الرقمي. وقد أسهمت هذه التطورات في تعزيز حضور المرأة في الفضاء الرقمي، لا سيما من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، والمنصات المهنية، والمبادرات المجتمعية والتكنولوجية.

إلا أن هذا الحضور لم يكن موزعًا بشكل متساوٍ بين النساء في مختلف المناطق أو الفئات الاجتماعية. فبينما استطاعت نساء المدن الكبرى الاستفادة من البنية التحتية الرقمية، بقيت نساء الأرياف والمناطق الداخلية يعانين من التفاوت في فرص الوصول والتمكين الرقمي.

الواقع الرقمي للمرأة التونسية

نسب الوصول إلى الإنترنت والتكنولوجيا

تشير الإحصائيات الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء ووزارة تكنولوجيات الاتصال إلى ارتفاع نسبة النساء المستعملات للإنترنت في تونس، حيث تجاوزت النسبة 60% في السنوات الأخيرة. هذا الرقم يعكس تحسناً ملحوظاً مقارنة بعقد مضى، لكنه لا يخفي التفاوتات الجغرافية والاقتصادية بين النساء. ففي حين تصل نسبة استعمال الإنترنت لدى النساء في العاصمة إلى أكثر من 75%، تنخفض هذه النسبة إلى أقل من 40% في بعض المناطق الريفية.

التعليم الرقمي وتكوين الكفاءات

تمثل المؤسسات التربوية والجامعية نقطة انطلاق حاسمة في بناء القدرات الرقمية لدى المرأة التونسية. فقد ساهمت البرامج التعليمية في مجال الإعلامية والهندسة والتصميم الرقمي في تزايد عدد الطالبات في التخصصات التكنولوجية. وتشير البيانات إلى أن النساء يمثلن قرابة 50% من طلبة كليات الهندسة وعلوم الحاسوب، وهو ما يتجاوز المعدلات الإقليمية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.

إلا أن هذه المشاركة لا تُترجم بنفس الحماس في سوق الشغل، حيث تستمر الفجوة بين التكوين الأكاديمي والتوظيف في قطاعات التكنولوجيا.

مشاركة المرأة في سوق العمل الرقمي

رغم التحسن النسبي في معدلات المشاركة الاقتصادية للمرأة، لا تزال مشاركتها في الاقتصاد الرقمي محدودة نسبيًا. فقط حوالي 20% من العاملين في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصال في تونس من النساء، رغم أنهن يمثلن قوة بشرية مؤهلة وكفؤة. ويعود هذا التراجع إلى عدة عوامل، من بينها النظرة النمطية للمهن التقنية، وصعوبة التوفيق بين الحياة المهنية والأسرية، وغياب سياسات تشجيعية فعالة للنساء العاملات في هذا القطاع.

التحول الرقمي والتمكين الاقتصادي للمرأة

ريادة الأعمال الرقمية النسائية

شهدت تونس خلال العقد الأخير بروز عدد من المبادرات النسائية في مجال ريادة الأعمال الرقمية، حيث أسست العديد من النساء شركات ناشئة في مجالات متنوعة مثل التجارة الإلكترونية، التعليم الرقمي، تطوير التطبيقات، والخدمات السحابية. وقد دعمت مؤسسات حكومية مثل “Smart Tunisia” و”Startup Tunisia” هذا التوجه من خلال برامج دعم وتمويل مخصصة للنساء الرياديات.

إلى جانب الدعم المحلي، ساهمت المبادرات الإقليمية والدولية مثل برنامج “She Leads Tech” و”Women in Tech Africa” في فتح آفاق جديدة أمام النساء التونسيات للمشاركة في الشبكات المهنية والولوج إلى أسواق عالمية.

الاقتصاد التشاركي والعمل عن بعد

أصبح الاقتصاد التشاركي والعمل عن بعد من الحلول التي سهلت انخراط النساء في سوق الشغل الرقمي دون الحاجة إلى التنقل أو الوجود في مكاتب رسمية. ومن خلال منصات مثل “Freelancer”، “Upwork”، و”Tunisie Freelance”، استطاعت العديد من النساء التونسيات تقديم خدمات في مجالات الترجمة، التصميم، كتابة المحتوى، وتطوير البرمجيات.

هذا النمط الجديد من العمل وفر مرونة غير مسبوقة، وساهم في تجاوز الحواجز الاجتماعية، خاصة بالنسبة للنساء اللواتي يعانين من قيود أسرية أو جغرافية.

التحديات التي تواجه المرأة في المجال الرقمي

العنف الرقمي

من أبرز التحديات التي تواجه النساء في الفضاء الرقمي التونسي هو العنف الإلكتروني الذي يأخذ أشكالاً متعددة، مثل التهديد، والتشهير، والملاحقة الإلكترونية. وقد أظهرت دراسة صادرة عن جمعية “Beity” أن أكثر من 60% من النساء اللواتي شاركن في المسح قد تعرضن لشكل من أشكال العنف الرقمي.

تعد هذه الظاهرة من العوامل التي تثني النساء عن المشاركة النشطة في الفضاء الرقمي، وتحد من حريتهن في التعبير والانخراط في الحياة العامة عبر الإنترنت.

الفجوة الرقمية بين الجنسين

لا تزال الفجوة الرقمية قائمة، رغم التقدم النسبي. هذه الفجوة لا تقتصر على النفاذ إلى التكنولوجيا، بل تمتد إلى نوعية الاستعمال، ومجالات التكوين، وفرص الابتكار والقيادة. وتظل النساء أقل تمثيلاً في المناصب القيادية في قطاع التكنولوجيا، كما أن حظوظهن في الحصول على تمويلات لمشاريع رقمية تبقى محدودة مقارنة بالرجال.

البنية التحتية والتعليم الرقمي

تُشكل محدودية البنية التحتية في المناطق الداخلية، وضعف إدماج تكنولوجيات الاتصال في المناهج التعليمية في المدارس الريفية، حاجزاً إضافياً أمام مشاركة النساء في الاقتصاد الرقمي. كما أن غياب برامج تكوين مستمرة وموجهة للنساء، خاصة خارج الأطر الجامعية، يحد من فرص إدماج النساء في التطورات التكنولوجية المتسارعة.

الجهود المؤسساتية والتشريعية لدعم المرأة في المجال الرقمي

عملت الدولة التونسية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدولية على بلورة سياسات واستراتيجيات لدعم المرأة في المجال الرقمي. ومن بين المبادرات البارزة:

• الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي التي وضعت ضمن أولوياتها تقليص الفجوة الرقمية بين الجنسين.

• برنامج “تمكين النساء والفتيات من النفاذ إلى تكنولوجيات المعلومات والاتصال” بالتعاون مع الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU).

• إطلاق أكاديميات رقمية موجهة للنساء في عدة مناطق داخلية، بتمويل من الاتحاد الأوروبي.

• تبني قانون مناهضة العنف ضد النساء (القانون عدد 58 لسنة 2017)، والذي وسّع من مفهوم العنف ليشمل العنف الرقمي.

المرأة والإعلام الرقمي والمشاركة السياسية

لعبت المرأة التونسية دوراً مركزياً في الإعلام الرقمي والمشاركة السياسية منذ الثورة، حيث ظهرت ناشطات ومدونات وصحفيات استخدمن التكنولوجيا كوسيلة للدفاع عن الحقوق، ونشر الوعي، والتأثير في القرار السياسي. وتمكنت العديد من النساء من بناء منصات إعلامية رقمية مستقلة، كما استخدمن وسائل التواصل الاجتماعي للدعوة إلى إصلاحات اجتماعية وقانونية، لا سيما في ما يتعلق بحقوق المرأة والمساواة.

المرأة والابتكار التكنولوجي في تونس

برزت خلال السنوات الأخيرة مجموعة من النساء المهندسات والباحثات في مجال الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، وإنترنت الأشياء، وعلوم البيانات، وقد تمكنّ من تحقيق نجاحات باهرة سواء على المستوى المحلي أو الدولي. ساهمت هذه النجاحات في كسر الصورة النمطية حول التكنولوجيا كمجال ذكوري، وأصبحت نماذج ملهمة للفتيات الصغيرات.

كما شهدت تونس تنظيم مسابقات وأولمبيادات علمية ورقمية شجعت الفتيات على المشاركة في مشاريع الابتكار، من بينها مسابقات “Tunisian Women in Tech”، و”Technovation Tunisia”، وهي منصات ساعدت في إبراز قدرات الفتيات في تطوير حلول تكنولوجية مبتكرة تخدم المجتمع.

جدول: مقارنة بين مؤشرات النفاذ الرقمي للمرأة والرجال في تونس (2023)

التوصيات المستقبلية

تعزيز مشاركة المرأة التونسية في المجال الرقمي يستدعي تدخلًا متعدد الأبعاد يشمل:

• الاستثمار في التعليم الرقمي منذ المراحل الابتدائية، مع التركيز على الفتيات في المناطق المحرومة.

• تطوير سياسات تحفيزية موجهة لريادة الأعمال الرقمية النسائية.

• توسيع برامج التكوين المستمر والتوجيه المهني في المجال الرقمي.

• تعزيز الإطار القانوني لحماية النساء من العنف الرقمي.

• دعم تمثيل النساء في مواقع القرار في القطاع التكنولوجي.

• إطلاق حملات تحسيسية لتغيير الصور النمطية حول أدوار المرأة في التكنولوجيا.

الخاتمة

تمثل تكنولوجيات المعلومات والاتصال فرصة استراتيجية لتعزيز المساواة بين الجنسين في تونس، من خلال تمكين النساء من الوصول إلى المعرفة، والمهارات، والموارد الاقتصادية والاجتماعية. إلا أن هذه الفرصة لا يمكن تحقيقها دون سياسات عامة شاملة وتشاركية، تدمج البعد الجندري في صلب استراتيجيات التحول الرقمي، وتضمن ألا تظل المرأة مجرد مستهلكة للتكنولوجيا، بل فاعلة ومبدعة فيها، وشريكة في صنع مستقبل رقمي عادل ومستدام.

المراجع:

1. المعهد الوطني للإحصاء، تقرير النفاذ إلى التكنولوجيا، تونس، 2023.

2. وزارة تكنولوجيات الاتصال، الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي، تونس، 2022.