الفرق بين فرض العين وفرض الكفاية

مقدمة حول الفروض في الشريعة الإسلامية

في الشريعة الإسلامية، تُبنى الأحكام التكليفية على أسس راسخة تحدد مسؤوليات المسلم تجاه ربه، وتجاه نفسه، وتجاه مجتمعه. وتُعد الفروض أحد أركان هذا البناء التشريعي الهام، حيث يُكلف المسلم بأداء بعض الأفعال التي لا يُعذر بتركها إلا بعذر شرعي. وقد صنف العلماء الفروض إلى نوعين رئيسيين: فرض العين وفرض الكفاية، وهما مفهومان جوهريان في فهم مسؤوليات المسلم الفردية والجماعية. ولكل منهما نطاق محدد وضوابط دقيقة في التطبيق والحكم.

تعريف فرض العين

فرض العين هو الفرض الذي يتعين على كل مسلم مكلف بعينه أن يقوم به بنفسه، ولا يَسقُط عنه بقيام غيره به. فكل شخص مطالب به بشكل شخصي، ولا يُجزئ عن أحد أن يؤديه عن شخص آخر، ما لم يرد نص شرعي يجيز ذلك. ويُعتبر فرض العين من أعلى مراتب الواجبات الشرعية التي لا يجوز التهاون بها أو تركها.

من الأمثلة البارزة على فرض العين: الصلاة المفروضة، وصيام رمضان، وأداء الزكاة لمن بلغ النصاب، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً. هذه الأعمال يُحاسب المسلم عليها فرديًا، وهي من أركان الإسلام التي لا تكتمل صحة دين المسلم إلا بالالتزام بها.

تعريف فرض الكفاية

أما فرض الكفاية فهو الفرض الذي إذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثموا جميعًا. فهو واجب على المجموع، وليس على كل فرد بعينه، ولكنه يصبح واجبًا فرديًا إذا لم يقم به أحد. يُعد فرض الكفاية من الواجبات التي تهدف إلى تحقيق مصالح المجتمع وصيانة الأمة.

من أمثلة فرض الكفاية: تغسيل الميت، والصلاة عليه، ودفنه، والجهاد في سبيل الله عند الحاجة، وتعليم العلوم النافعة، وتولي المناصب التي تتعلق بمصالح المسلمين، مثل القضاء والطبابة. فإذا قام بهذا الواجب عدد كاف من المسلمين سقط عن الباقين، لكن إذا أهمله الجميع يُعتبر الجميع مقصرين ويأثمون.

الفروق الجوهرية بين فرض العين وفرض الكفاية

1- من حيث المسؤولية الفردية والجماعية

• فرض العين: المسؤولية فيه فردية بحتة، فلا يجوز للمسلم أن يتركه معتمدًا على قيام غيره به، ولا يُسقطه عنه إلا أداءه بنفسه أو وجود مانع شرعي معتبر.

• فرض الكفاية: المسؤولية فيه جماعية، فإذا قام به البعض بقدر الكفاية سقط الإثم عن الآخرين، أما إذا لم يقم به أحد أثم الجميع.

2- من حيث العقوبة عند الترك

• فرض العين: تركه يُعد معصية صريحة توجب الإثم على التارك، وقد يترتب عليها أحكام دنيوية أو أخروية حسب نوع الفرض، مثل إقامة الحدود في بعض الحالات.

• فرض الكفاية: إذا قام به من يكفي لا يكون هناك إثم، لكن إذا أُهمل تمامًا يُعاقب الجميع باعتبار أن الأمة قصّرت في واجبها الجماعي.

3- من حيث استمرار التكليف

• فرض العين: التكليف به دائم ومستمر على المسلم المكلف ما دام مكلفًا ولم يتحقق له عذر شرعي.

• فرض الكفاية: يسقط التكليف بمجرد أن يقوم به من يكفي، فلا يستمر التكليف لبقية الأفراد.

4- من حيث علاقة الفرض بمصالح الفرد والمجتمع

• فرض العين: يركز على تهذيب الفرد وضمان التزامه بعباداته الأساسية التي تربطه بالله بشكل شخصي.

• فرض الكفاية: يركز على تحقيق مصالح الأمة وصيانة النظام الاجتماعي والديني للمجتمع الإسلامي.

5- من حيث الأمثلة التطبيقية

أهمية التمييز بين فرض العين وفرض الكفاية

التمييز بين هذين النوعين من الفروض له أهمية كبرى في تنظيم حياة المسلم ومعرفة حدود تكليفه ومسؤوليته. فالمسلم ينبغي أن يُعنى أولا بأداء فروض الأعيان لأنها مسؤوليته الشخصية التي لا تبرأ ذمته إلا بأدائها. ومن ثم ينتقل إلى فروض الكفايات التي تحقق للمجتمع توازنه واستقراره، خاصة إذا لاحظ أن هذا الفرض لم يقم به من يكفي.

كما أن فهم هذا التقسيم يعزز في النفس الشعور بالتكامل بين الفرد والمجتمع في الإسلام، فالتكليف في الشريعة ليس مسؤولية فردية فقط، بل يتسع ليشمل مسؤولية جماعية يتعاون فيها المسلمون لتحقيق مقاصد الشريعة وحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.

أثر الالتزام بفروض العين والكفاية في المجتمع

التزام المسلمين بفروض الأعيان والكفايات يؤدي إلى بناء مجتمع متماسك تسوده القيم الأخلاقية والانضباط الديني. فحين يؤدي كل فرد ما عليه من فروض أعيان، فإن علاقة العبد بربه تكون قوية راسخة. كما أن أداء فروض الكفايات يسهم في نشر الخير، ودفع المفاسد، وحماية حقوق المسلمين في مختلف مجالات الحياة.

فالمجتمع الذي يهمل فروض الكفايات يُعرض نفسه للضعف والهوان، لأن هذه الفروض تشمل ميادين حساسة مثل الجهاد، والتعليم، والتطبيب، والقضاء. فإذا تخلى المسلمون عن هذه الواجبات انكشفت الأمة أمام أعدائها، وسادت فيها الجهالة والضعف.

وفي المقابل، عندما يتسابق المسلمون لأداء فروض الكفاية يتحقق في الأمة مفهوم “التكافل” الحقيقي، فتجد العلماء يتصدرون للتعليم، والأطباء يسهرون على علاج الناس، والقضاة يقيمون العدل، ومن يتولى شؤون الأمة ينهض بها إلى مراتب القوة والتمكين.

أمثلة موسعة على فرض العين

الصلاة المفروضة

الصلاة هي أعظم مثال على فرض العين، حيث أمر الله تعالى بها المسلمين خمس مرات في اليوم والليلة. ولا يجوز تركها بحال من الأحوال إلا لعذر قاهر كفقدان العقل أو الحيض أو النفاس بالنسبة للنساء. وقد ورد في الحديث الشريف أن “العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر” (رواه الترمذي). فالصلاة فرض شخصي لا تُجزئ فيه النيابة، ولا يسقط عن المسلم أداؤها مهما كانت الظروف إلا إذا سقط عنه التكليف الشرعي كاملاً.

صيام رمضان

صيام شهر رمضان هو فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل قادر. ولا يُقبل فيه أن يصوم أحد عن أحد إلا في حالات خاصة مثل قضاء صيام الميت. فالصيام عبادة شخصية تُطهر النفس وتُهذب الأخلاق وتُقرب العبد من ربه.

أداء الزكاة

إخراج الزكاة بعد بلوغ النصاب ومرور الحول هو فرض عين على كل مسلم يملك النصاب. ولا يسقط إلا بإخراجه طوعًا أو بإجبار الحاكم إذا امتنع عنه. والزكاة حق الفقراء، ويُحاسب المسلم على إخراجه بنفسه.

الحج لمن استطاع

الحج فرض عين على كل مسلم مستطيع مرة واحدة في العمر. وهو من أركان الإسلام التي لا يتم إسلام العبد إلا به إذا توفرت شروطه.

أمثلة موسعة على فرض الكفاية

تغسيل الميت

إذا مات المسلم وجب على المجتمع أن يقوم بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه. فإذا قام بذلك من يكفي سقط الإثم عن بقية المسلمين، أما إذا تُرك الميت دون أن يُغسل أو يُدفن أثم الجميع.

الجهاد في سبيل الله

الجهاد الكفائي يُعد من أعظم فروض الكفايات، فإذا هاجم العدو بلاد المسلمين وجب على الجميع أن يتصدوا له، لكن إذا قام به من يكفي وسد الثغور، سقط الإثم عن الآخرين.

القضاء وفصل النزاعات

تولي القضاء بين المسلمين فرض كفاية، فإذا قام به قاضٍ كفء يتحقق به العدل، وإلا أثم المجتمع المسلم بتقصيره في إقامة الحق وفصل الخصومات.

طلب العلوم الضرورية

تعلم علوم الدين الأساسية واجب عين على كل مسلم، لكن التوسع في العلوم المتخصصة كعلوم الطب والهندسة والكيمياء فرض كفاية، بحيث يجب أن يكون في كل مجتمع من يتخصص فيها لحماية مصالح الأمة.

الجدول التفصيلي للفروق بين فرض العين وفرض الكفاية

خلاصة القول

يتضح من خلال هذا البيان أن التفرقة بين فرض العين وفرض الكفاية ليست مجرد تصنيف نظري، بل هي قاعدة عملية ترسم معالم مسؤوليات المسلم بدقة. ففرض العين يُركز على إصلاح الفرد وربطه بربه من خلال العبادات الشخصية التي لا يقبل الله فيها النيابة ولا التهاون. أما فرض الكفاية فيُركز على حماية الأمة وتحقيق مصالحها الجماعية في مجالات شتى.

هذا التوازن بين المسؤولية الفردية والجماعية يعكس عدالة الإسلام وعمقه في بناء شخصية المسلم الذي يعتني بنفسه ويخدم مجتمعه في آنٍ واحد. وعليه، فالمسلم الحق هو من يبادر إلى أداء فرض العين بإتقان، ولا يتقاعس عن المساهمة في فروض الكفايات حتى يسهم في نهضة الأمة وصيانة بنيانها.

المصادر:

• كتاب “الوجيز في أصول الفقه” للشيخ عبد الكريم زيدان.

• كتاب “الفقه الإسلامي وأدلته” للدكتور وهبة الزحيلي.