إخوان الصفا: فلاسفة الفكر الإسلامي

إخوان الصفا: جماعة العقل والفكر في الحضارة الإسلامية

عرفت الحضارة الإسلامية في أوج ازدهارها بروز تيارات فكرية ومذهبية متنوعة، منها ما كان ظاهرياً ومنها ما بقي في الظل وأثر في الفكر دون أن يتصدر الساحة السياسية أو الدينية. ومن بين هذه التيارات تبرز جماعة “إخوان الصفا وخلان الوفا”، وهي جماعة فلسفية باطنية أثّرت تأثيراً عميقاً في الفكر الإسلامي الوسيط، وطرحت مشروعاً معرفياً شاملاً كان يجمع بين الدين والفلسفة، وبين العقل والنقل، في رؤية تهدف إلى إصلاح الإنسان والمجتمع. في هذا المقال نعرض دراسة موسعة عن هذه الجماعة، تأسيسها، أفكارها، أعمالها، أثرها، وعلاقتها بالفرق والمذاهب الأخرى.

أولاً: النشأة والتسمية

ظهرت جماعة إخوان الصفا في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، على الأرجح في مدينة البصرة، في فترة كانت تشهد فيها الدولة العباسية ضعفاً سياسياً ولكن ازدهاراً علمياً وفلسفياً. ويرجح الباحثون أن هذه الجماعة كانت تعمل في الخفاء، وأن أعضاءها لم يكونوا معروفين بأسمائهم الحقيقية. وقد اشتُق اسمهم من معنى رمزي مستقى من أدب الصداقة والوفاء: “إخوان صَفا وخلان وُفا”، وهو يشير إلى جماعة متحابة مترابطة، اتخذت من المودة والتعاون والعقل سبيلاً إلى الحقيقة.

وتُعد رسائلهم الفلسفية التي عُرفت باسم “رسائل إخوان الصفا” الأثر الرئيس الباقي من فكرهم، وهي موسوعة معرفية ضخمة تُعد من أعظم الأعمال الفكرية في التراث الإسلامي، وتشمل مختلف ميادين العلوم من رياضيات، وفلك، ومنطق، وطبيعة، ونفس، وموسيقى، وفلسفة، وشرائع الأديان، بل حتى السياسة.

ثانياً: الأهداف والمنهج

كانت جماعة إخوان الصفا تسعى إلى غاية كبرى وهي تحقيق الكمال الإنساني من خلال المعرفة، والعمل الصالح، والتزكية، والجمع بين العقل والنقل. ولذلك يمكن تلخيص أهدافهم في النقاط الآتية:

• إصلاح النفس الإنسانية عن طريق التعليم والتفكر وترويض الغرائز.

• الوحدة بين المذاهب والفرق، حيث كانوا يدعون إلى تجاوز الخلافات المذهبية والكلامية والبحث عن جوهر الدين.

• الربط بين الفلسفة والشريعة، حيث رأوا أن الفلسفة هي حكمة الأقدمين والشريعة هي وحي الله، وكلاهما يؤدي إلى الحقيقة إذا ما فُهم على وجهه الصحيح.

• إقامة مجتمع مثالي تكون فيه القيادة لأهل الحكمة والمعرفة، ويُبنى على العدالة والمساواة والفضيلة.

أما منهجهم في المعرفة، فقد جمع بين التجريب العقلي المستند إلى المنطق والفلسفة، وبين التأمل الروحي المتصل بالتصوف، كما اعتمدوا على رموز ومجازات مستمدة من التراثين اليوناني والإسلامي، وأظهروا تأثراً واضحاً بأفلاطون وأرسطو، وبالفكر الفيثاغورسي، بالإضافة إلى تأثيرات فارسية وهندية.

ثالثاً: الرسائل: الموسوعة الفكرية

“رسائل إخوان الصفا” هي أبرز ما خلفته الجماعة، وهي تتكون من أكثر من خمسين رسالة، جُمعت في أربعة أقسام، تغطي شتى فروع المعرفة. ويمكن تقسيم هذه الرسائل إلى أربعة مجالات رئيسية:

وقد عرضوا في هذه الرسائل نظريات متقدمة لم تكن مألوفة في عصرهم، وضمنوها شروحاً رمزية ولغوية معقدة، ما جعل فهمها يحتاج إلى تأمل عميق. ومن القضايا التي ناقشوها: خلود النفس، ترتيب الكون، التناسخ، مراتب الموجودات، التأويل الباطني للنصوص، وتكامل الأديان.

رابعاً: الفكر الفلسفي والديني

كان فكر إخوان الصفا فريداً في مزجه بين المعتقدات الدينية والمقولات الفلسفية، ويمكن تلخيص أبرز ملامح هذا الفكر كما يلي:

1. نظرية الفيض

تقوم على تصور وجود إله واحد أعلى، يصدر عنه الوجود تدريجياً عبر وسائط عقلية وروحية، تبدأ بالعقل الكلي، ثم النفس الكلية، ثم العالم السماوي، وأخيراً العالم الأرضي.

2. مراتب الوجود

يرون أن الوجود يتدرج من الله، إلى العقول، إلى النفوس، إلى الأجرام السماوية، ثم إلى العناصر الأربعة، فالمعادن، فالنبات، فالحيوان، فالإنسان.

3. التناسخ والبعث

كانوا يميلون إلى الاعتقاد بانتقال النفس بعد الموت إلى أجساد أخرى (تناسخ)، على خلاف العقيدة الإسلامية السنية، واعتبروا أن النفس الخيّرة تترقى حتى تعود إلى موطنها الأصلي، في حين تعاقب النفس الشريرة.

4. الدين والفلسفة

أكدوا أن الدين هو صورة رمزية لحقيقة فلسفية، وأن النبي هو فيلسوف ملهم، وأن الشريعة يجب أن تُفهم في ضوء الحكمة، لا أن تُفسر حرفياً فقط.

5. الوحدة الإنسانية

دافعوا عن وحدة الجنس البشري، ورأوا أن كل البشر إخوة، وأن أصلهم واحد، وأن الأديان جاءت لمصلحة الناس، وأن العقل يجب أن يكون حَكماً بينها، لا التعصب.

خامساً: الجانب الاجتماعي والسياسي

لم يكن اهتمام إخوان الصفا مقتصراً على الجوانب الفكرية والدينية فقط، بل أولوا أهمية كبيرة للأبعاد الاجتماعية والسياسية، وطرحوا تصوراً لمجتمع مثالي قائم على مبادئ الفلسفة الأخلاقية:

• الدولة العادلة يجب أن تُبنى على أساس العلم والفضيلة.

• الطبقات الاجتماعية يجب أن تقوم على الكفاءة لا على النسب أو المال.

• شددوا على التعليم واعتبروه مفتاح الإصلاح، وركزوا على تربية الناشئة على الفضيلة.

• دعوا إلى المساواة بين الجنسين في التعليم، وإلى احترام جميع الأديان والثقافات.

وقد تضمنت بعض الرسائل دعوات صريحة إلى تكوين “مجتمع سري” من الحكماء والفلاسفة لإصلاح العالم، وهو ما دفع بعض المؤرخين إلى ربط الجماعة بالحركات السرية الباطنية، خصوصاً الإسماعيلية.

سادساً: علاقتهم بالفرق والمذاهب

لقد أثارت طبيعة إخوان الصفا وكتاباتهم كثيراً من الجدل، وحاول الباحثون نسبهم إلى مذاهب أو فرق بعينها، ومن أبرز ما قيل:

• الإسماعيلية: يرى كثير من الباحثين أن جماعة إخوان الصفا كانت إسماعيلية باطنية في الأصل، وهو ما تؤكده بعض ملامحهم الفكرية مثل التفسير الباطني، وتدرج مراتب الوجود.

• الاعتزال: تأثروا إلى حد ما بمدرسة المعتزلة من حيث إعلاء العقل والتوحيد والعدل، لكنهم تجاوزوا ذلك إلى التصوف والفكر الباطني.

• الصوفية: يشير كثير من مضامين رسائلهم إلى نزعة صوفية، خاصة في الحديث عن تهذيب النفس، والترقي الروحي، ومعرفة الله عن طريق الباطن.

لكن رغم هذه القرابات، فقد احتفظت الجماعة بطابعها الخاص، وكانت حريصة على خطاب كوني إنساني، عابر للحدود المذهبية والجغرافية.

سابعاً: التأثير والانتشار

ترك فكر إخوان الصفا أثراً كبيراً في الفكر الإسلامي والإنساني، ومن مظاهر هذا التأثير:

• في الفلسفة الإسلامية: تأثر بهم مفكرون كبار مثل ابن سينا، السهروردي، والفارابي، الذين اقتبسوا بعض أفكارهم في النفس والعقل والفيض.

• في التصوف: تسربت مفاهيمهم الباطنية إلى بعض الطرق الصوفية، وخاصة في الشرق الإسلامي.

• في الغرب: تُرجمت بعض رسائلهم إلى اللاتينية منذ العصور الوسطى، واعتُبرت من النصوص المؤثرة في النهضة الأوروبية.

• في الفكر الحديث: عادت بعض الأفكار التي طرحوها للظهور في مشاريع فكرية حديثة تهدف إلى المصالحة بين العلم والدين، وبين العقل والوحي.

ثامناً: النقد والجدل

لم يكن فكر إخوان الصفا مقبولاً عند جميع علماء الإسلام، بل تعرضوا لنقد شديد من بعض الفقهاء والمحدثين بسبب:

• اعتمادهم على التأويل الباطني.

• القول بتناسخ الأرواح.

• خلطهم بين الدين والفلسفة.

• دعوتهم إلى جماعة سرية تعمل خارج السلطة.

ومن أشهر من انتقدهم الإمام الغزالي، الذي اعتبرهم منحرفين عن منهج أهل السنة، بينما دافع عنهم آخرون مثل نصير الدين الطوسي، الذي أعاد نسخ رسائلهم وترويجها.

تاسعاً: القيمة المعرفية والفلسفية

رغم كل الجدل حول الجماعة، إلا أن القيمة المعرفية لرسائل إخوان الصفا لا يمكن إنكارها:

• قدموا نموذجاً موسوعياً للتفكير يشبه الموسوعات الحديثة.

• سعوا إلى تكامل المعرفة الإنسانية، وجمعها في إطار متناسق.

• جسدوا روح التسامح والبحث عن الحقيقة دون تعصب.

• فتحوا آفاقاً جديدة في فهم الدين والعقل والطبيعة.

عاشراً: الخاتمة العامة

مثلت جماعة إخوان الصفا ظاهرة استثنائية في التاريخ الثقافي الإسلامي، جمعت بين الفلسفة والدين، بين العلم والتصوف، بين التراث والابتكار، وسعت إلى مشروع نهضوي مبكر تجاوز زمانها ومكانها. وقد كانت رسائلهم، رغم غموضها في بعض الأحيان، واحدة من أرقى ما أبدعته الحضارة الإسلامية في محاولة فهم الوجود، وتزكية النفس، وبناء مجتمع عادل يقوم على المعرفة.

المراجع:

1. عارف تامر، إخوان الصفا: تاريخهم ومذهبهم، دار الكاتب العربي، بيروت.

2. إخوان الصفا، الرسائل الكاملة لإخوان الصفا، تحقيق عارف تامر، دار صادر، بيروت.