التحكم بما لا يمكن تغييره

كيف تسيطر على ما لا يمكنك السيطرة عليه في الحياة

في مشهد الحياة المتشابك والمعقد، يواجه الإنسان تحديات تتجاوز قدرته على التحكم بها، مثل فقدان عزيز، تقلبات الاقتصاد، تقلبات الطقس، قرارات الآخرين، أو حتى الأمراض المزمنة. هذه الظروف الخارجة عن إرادتنا، تشكل محوراً أساسياً في رحلة الإنسان نحو التوازن الداخلي والسلام النفسي. غير أن السيطرة على ما لا يمكن السيطرة عليه لا تعني السيطرة الفعلية على الحدث الخارجي، بل تعني في جوهرها إعادة تشكيل العلاقة النفسية والعقلية مع تلك الأحداث، وتعلم أدوات التكيّف، وتوسيع مفهوم السيطرة ذاته من التحكم الخارجي إلى التحكم الداخلي.

إن جوهر هذا المفهوم يكمن في التحوّل من عقلية الصراع إلى عقلية القبول، ومن الرغبة في السيطرة الكلية إلى الحكمة في التمييز بين ما يمكن تغييره وما لا يمكن تغييره، وهو المبدأ الذي قامت عليه الفلسفات الشرقية القديمة، وتبنته المدارس الحديثة في علم النفس مثل العلاج السلوكي الجدلي (DBT) والعلاج بالقبول والالتزام (ACT).

أولا: التمييز بين ما يمكن تغييره وما لا يمكن تغييره

يبدأ الطريق نحو السيطرة على اللامتحكم به من القدرة على التمييز بين ما يقع تحت سيطرتنا المباشرة وما لا يقع. وفقاً للفيلسوف الرواقي “إبيكتيتوس”، فإن جوهر الحرية النفسية هو الإدراك بأننا لا نملك السيطرة سوى على أفكارنا ومواقفنا، أما الأحداث الخارجية فليست ضمن نطاق سلطتنا. هذا الإدراك لا يمثل استسلاماً، بل يمثل تحرراً من الوهم الذي يولّد المعاناة: وهم السيطرة الكلية.

إن التمييز الواضح بين الداخل والخارج يسمح للإنسان بتركيز طاقته على ما ينفعه فعلاً، بدلاً من تضييعها في مقاومة ما لا يمكن تغييره. هذا لا يعني التخلي عن الطموح أو المبادرة، بل يعني توجيهها نحو مناطق التأثير الفعلية: سلوكك، قراراتك، قيمك، مشاعرك، وتفسيرك للأحداث.

ثانياً: ممارسة القبول الواعي

القبول لا يعني الاستسلام، بل يعني إدراك الواقع كما هو دون إنكار أو مقاومة غير منتجة. ففي حين أن الرفض المستمر للواقع يولّد التوتر والمعاناة، فإن القبول يسمح للإنسان بتحرير الطاقة النفسية وتوظيفها في الاتجاه الصحيح. القبول الواعي هو مهارة يمكن تطويرها من خلال الممارسة المستمرة، وهو عنصر أساسي في المدارس العلاجية الحديثة التي تهدف إلى تقليل المعاناة النفسية الناتجة عن الصراع مع الواقع.

إن القبول لا يلغي الألم، لكنه يخفف المعاناة الناتجة عن مقاومة الألم. يمكن تشبيه ذلك بمن يختار أن يسبح مع التيار بدلاً من مقاومته، مما يمنحه القدرة على النجاة والتوجيه في آنٍ معاً.

ثالثاً: إعادة بناء المعنى

أحد أعظم أدوات الإنسان في مواجهة ما لا يمكن تغييره هو قدرته على إعادة بناء المعنى. كما بيّن الطبيب النفسي فيكتور فرانكل، مؤسس العلاج بالمعنى، فإن الإنسان يستطيع أن يجد معنى في أقسى ظروف الحياة، حتى في معسكرات الاعتقال. إعادة بناء المعنى هو فعل داخلي يمكن من خلاله تحويل المحنة إلى فرصة للنمو، والمعاناة إلى مجال للتأمل، والخسارة إلى حافز لإعادة الاتصال بالقيم الأعمق.

إن هذا المسار يتطلب إعادة تأطير ذهني مستمر للأحداث، بحيث لا يُنظر إلى ما يحدث كعقاب أو مصيبة عمياء، بل كجزء من تجربة إنسانية أوسع تحمل في طياتها احتمالات للارتقاء النفسي والروحي.

رابعاً: الانضباط الذاتي كأداة للسيطرة

الانضباط الذاتي هو أحد أعمدة السيطرة الحقيقية، لأنه يوجه الفرد نحو القيام بما يجب فعله حتى عندما تكون الظروف غير مواتية. فالتحكم في العادات اليومية، إدارة الوقت، التنظيم، الالتزام بالقيم، كلها عناصر تقع تحت سيطرتنا حتى في أكثر اللحظات فوضوية.

حين يتدرب الإنسان على التحكم في ردوده الانفعالية، وفي سلوكياته اليومية، يصبح أكثر قدرة على الصمود أمام القوى التي لا يملك لها حلاً. السيطرة الحقيقية ليست في تغيير الظروف، بل في التحكم في استجابتنا لتلك الظروف.

خامساً: الرضا كقوة مضادة للقلق

الرضا لا يعني القبول بالواقع فحسب، بل يعني أيضاً تقدير اللحظة الحالية دون تعليق سعادة الإنسان على ظروف خارجية أو على آمال مستقبلية غير مؤكدة. الشخص الراضي لا يعيش في فخ التوقعات الدائمة، بل يتذوق طعم الحياة في بساطتها، ويتعامل مع الحاضر على أنه المساحة الوحيدة المتاحة فعلياً للعيش.

الرضا لا يعني إلغاء الطموح، بل يعني تهذيبه. هو يعلّم الإنسان أن يفرّق بين ما يملك وما يتمنى، وأن لا يجعل سعادته رهينة لتحقق أمنية قد لا تحدث أبداً. فبهذا المعنى، يتحول الرضا من موقف سلبي إلى موقف نشط يتطلب تمريناً ووعياً داخلياً.

سادساً: الانخراط في العمل النافع

عندما يشعر الإنسان بالعجز أمام قوى لا يمكنه التأثير فيها، فإن أفضل رد فعل هو التوجه نحو الفعل المفيد. الانخراط في عمل هادف – سواء أكان مهنياً، تطوعياً، فنياً، أو تعليمياً – يخفف الشعور بالعجز، ويعزز الإحساس بالقدرة والفعالية.

العمل النافع يخلق للإنسان شعوراً بالمعنى والانتماء، ويشغل العقل عن الانغماس في القلق والخوف. وقد بيّنت دراسات علم النفس الإيجابي أن الأفراد الذين يشاركون في نشاطات ذات معنى يكونون أكثر مرونة في مواجهة الأزمات وأكثر قدرة على التكيف.

سابعاً: الإيمان بقوة أعلى

في كثير من الثقافات، يُعتبر الإيمان مصدر قوة لا يُستهان به في مواجهة ما لا يمكن تغييره. الإيمان، سواء أكان دينياً أو روحياً، يمنح الإنسان شعوراً بأن الأحداث ليست عشوائية، وأن هناك حكمة ما خلف الألم والتحدي.

هذا الإيمان لا يجب بالضرورة أن يكون ميتافيزيقياً، بل يمكن أن يتجلى في الإيمان بأن الحياة ذات معنى، أو أن التجربة البشرية ليست عبثية. هذه القناعة تخلق إطاراً نفسياً يسمح للإنسان بتحمل الألم، والنظر إلى المعاناة بوصفها جزءاً من النمو الإنساني، وليست نهاية الوجود.

ثامناً: تطوير المرونة النفسية

المرونة النفسية هي القدرة على التأقلم مع التغيير، والتعامل مع الصدمات والخسارات دون الانهيار. إنها لا تعني إنكار المشاعر أو تجاهل الألم، بل تعني مواجهة الواقع بشجاعة وذكاء انفعالي. ويمكن تطوير هذه المرونة من خلال:

• التدريب على التأمل والوعي الذاتي

• بناء شبكة دعم اجتماعي فعّالة

• قراءة تجارب الآخرين في التغلب على المحن

• تطوير حس الفكاهة والقدرة على رؤية الجانب المضيء

هذه المرونة ليست فطرية فقط، بل مكتسبة أيضاً، ويمكن تدريبها عبر ممارسات الحياة اليومية واستيعاب دروسها المستمرة.

جدول: مقارنة بين أساليب التكيف الفعال وغير الفعال مع الأحداث الخارجة عن السيطرة

تاسعاً: الانفصال العاطفي الصحي

الانفصال العاطفي لا يعني البرود أو القسوة، بل يعني القدرة على الحفاظ على التوازن العاطفي دون الانجرار وراء كل موجة من المشاعر السلبية. إنه مهارة تنطوي على مراقبة المشاعر دون أن تصبح أسيراً لها، وعلى بناء مسافة نفسية تسمح لك بالرؤية بوضوح، بدلاً من التفاعل بشكل تلقائي.

هذه المهارة ضرورية خاصة في مواقف لا تملك السيطرة عليها، مثل تصرفات الآخرين أو تقلبات العالم. انفصالك العاطفي لا يعني ألا تشعر، بل يعني أن تتحكم في مشاعرك بدلاً من أن تتحكم فيك.

عاشراً: الوعي الزمني والعيش في اللحظة

غالباً ما تأتي المعاناة من التعلق بالماضي أو القلق من المستقبل. ولكن في الواقع، لا يملك الإنسان سوى لحظة الحاضر، وهي المساحة الوحيدة التي يمكن فيها الفعل والتأثير. لذلك، فإن تدريب النفس على العيش في اللحظة – من خلال تمارين مثل اليقظة الذهنية – يمثل إحدى وسائل التحرر من سطوة ما لا يمكن تغييره.

اللحظة الراهنة، رغم بساطتها الظاهرة، تحمل إمكانية لا نهائية للتحوّل والتغيير الداخلي، وهي الملاذ الأول والأخير للإنسان في وجه العاصفة.

خاتمة

السيطرة على ما لا يمكن السيطرة عليه تبدأ من الداخل لا من الخارج. إنها رحلة في عمق النفس، وفي صميم الوعي الإنساني، حيث يكمن السر الأكبر: نحن لا نستطيع دائماً تغيير العالم، لكننا نستطيع أن نغيّر طريقتنا في رؤيته، والتعامل معه، والتفاعل مع ما يجلبه من أحداث. بين القبول والرفض، وبين المعاناة والتحول، يتحدد مصير الإنسان، وتتجلى حريته الحقيقية.

المراجع:

1. Frankl, Viktor E. Man’s Search for Meaning. Beacon Press, 2006.

2. Linehan, Marsha M. DBT Skills Training Manual. Guilford Press, 2014.