موريس بوكاي، الطبيب الشخصي للملك فيصل بن عبد العزيز، يعد واحدًا من الشخصيات المثيرة للجدل في التاريخ الطبي والبحث العلمي، حيث ارتبط اسمه بعلاقة وثيقة مع المملكة العربية السعودية، خاصة في فترة السبعينات من القرن العشرين. هذه العلاقة، التي بدأت بينه وبين الملك فيصل بن عبد العزيز، هي واحدة من القصص التي تجمع بين الطب والسياسة، وبين الرغبة في المعرفة والبحث في القضايا الطبية والدينية. لكن تبرز هنا ملامح شخصية بوكاي باعتباره ليس مجرد طبيب، بل شخصًا صاحب اهتمامات فكرية ودينية وثقافية، ترك بصمة في العديد من المجالات.
نشأة موريس بوكاي وتعليمه الطبي
وُلد موريس بوكاي في فرنسا في 1929، واهتم منذ صغره بالمجال الطبي والبحث العلمي. درس الطب في جامعة باريس حيث حصل على شهادة الطب، وتخصص في مجال الجراحة والطب الباطني. بدأ مشواره المهني في المستشفيات الفرنسية، حيث اكتسب سمعة طيبة كطبيب ذي كفاءة عالية في مجال تخصصه.
إلا أن اهتمام بوكاي لم يقتصر على الطب التقليدي فحسب، بل بدأ يتجه نحو البحث في الروابط بين الطب والدين، مما جعله يتعمق في دراسات أخرى تشمل الدين الإسلامي، والمسيحية، واليهودية. عمل بوكاي على دراسة العلاقة بين العلوم الطبيعية والنصوص الدينية، وهو ما دفعه للبحث في موضوعات مثل الطب في القرآن الكريم والطب في الكتاب المقدس.
توليه منصب الطبيب الشخصي للملك فيصل بن عبد العزيز
في بداية السبعينات، عُرف عن موريس بوكاي شخصيته القوية واهتمامه بالبحث العلمي، وهذا ما جذب انتباه السلطات السعودية. وُظف بوكاي ليكون الطبيب الشخصي للملك فيصل بن عبد العزيز، الذي كان قد تعرض لعدد من المشاكل الصحية في تلك الفترة. كانت هذه الخطوة هي بداية العلاقة الوثيقة بين بوكاي والمملكة العربية السعودية، والتي امتدت لأكثر من عقد من الزمن.
خلال فترة عمله مع الملك فيصل، تمكن بوكاي من تقديم العلاج والرعاية الطبية للملك، وهو ما ساعده في الحفاظ على صحته، خاصة في الفترة التي سبقت اغتيال الملك فيصل في عام 1975. وذكر في مذكراته أن الملك فيصل كان شخصًا مثقفًا جدًا وكان يتمتع بمعرفة واسعة في مختلف المجالات، بما في ذلك الطب، وكان دائمًا يستفسر عن آخر الأبحاث الطبية.
دراسة العلاقة بين الطب والدين
من أبرز الإنجازات الفكرية لموريس بوكاي كانت دراسته حول الطب في النصوص الدينية، وخاصة القرآن الكريم. بعد سنوات من عمله في المملكة العربية السعودية، بدأ بوكاي يشعر بالحاجة إلى دراسة العلاقة بين العلوم الحديثة والنصوص الدينية، وقرر التركيز على القرآن الكريم والكتاب المقدس في هذا السياق.
في عام 1976، نشر بوكاي كتابه الشهير “القرآن والتوراة والإنجيل والعلم”، الذي تناول فيه مسألة التوافق بين النصوص الدينية والعلوم الحديثة. كان الكتاب بمثابة بحث علمي رائد، حيث قام بوكاي بتحليل آيات من القرآن الكريم والتوراة والإنجيل وأثبت كيف تتطابق بعض هذه الآيات مع الاكتشافات العلمية الحديثة.
أحد أبرز الفصول في الكتاب هو تلك التي تناولت الوصف القرآني لخلق الإنسان، حيث أشار بوكاي إلى أن العديد من الآيات التي تحدثت عن مراحل تطور الجنين في رحم الأم تتوافق بشكل دقيق مع اكتشافات علم الأجنة الحديثة. كما أشار إلى أن القرآن تحدث عن تطور الكون واختلاف المراحل التي مر بها، وهو ما يتوافق مع الاكتشافات الحديثة في علم الفلك والفيزياء.
أثار الكتاب جدلاً واسعًا في الأوساط العلمية والدينية، حيث اعتبره الكثيرون دليلًا على التوافق بين العلم والإيمان. وقد حصل الكتاب على العديد من الجوائز وأصبح مرجعًا مهمًا في الدراسات التي تجمع بين الدين والعلوم.
التأثير على الفكر الإسلامي والعالمي
بعد نشر كتابه، أصبح موريس بوكاي واحدًا من الشخصيات التي تُعنى بالجسر بين العلم والدين، وخاصة في العالم الإسلامي. العديد من العلماء المسلمين والمفكرين اهتموا بآراء بوكاي، إذ كان يبحث في كيفية تفسير النصوص الدينية بما يتفق مع الفهم العلمي المعاصر. استطاع بوكاي من خلال عمله هذا أن يفتح آفاقًا جديدة للدراسات الإسلامية، خاصة فيما يتعلق بتفسير آيات القرآن الكريم التي تتعلق بالعلوم.
ولكن بوكاي لم يقتصر تأثيره على العالم الإسلامي فحسب، بل امتد إلى العالم الغربي أيضًا. فقد لفت كتابه انتباه الكثير من المفكرين والعلماء في الغرب، حيث كان الكتاب بمثابة محاولة لفهم العلاقة بين العلوم الحديثة والديانات السماوية. وفي هذا السياق، اعتُبر بوكاي من العلماء الذين ساهموا في نشر فكرة أن العلم والدين ليسا متناقضين، بل يمكن أن يتكاملان.
تجربته في المملكة العربية السعودية
خلال فترة عمله في المملكة، لم يكن موريس بوكاي مجرد طبيب متخصص، بل كان يشكل جسرًا ثقافيًا وعلميًا بين الغرب والعالم العربي. كانت علاقته مع الملك فيصل بن عبد العزيز علاقة عمل وثقة، وقد أتاح له منصب الطبيب الشخصي الفرصة للتفاعل مع أبرز الشخصيات السياسية في المملكة. كان بوكاي يقدّر الثقافة الإسلامية ويعترف بتاريخها العريق في مجال الطب والعلم، ويذكر في مذكراته العديد من اللقاءات مع العلماء المسلمين التي شكلت مصدر إلهام له.
وتعد تجربته في المملكة العربية السعودية نقطة تحول في حياته المهنية، إذ أصبح أكثر اهتمامًا بالجانب الروحي والعقائدي، وجاءت هذه الفترة لتكرس اهتماماته البحثية وتزيد من عمق رؤيته العلمية.
الوفاة والإرث العلمي
توفي موريس بوكاي في عام 1992، ولكن إرثه العلمي والثقافي لا يزال حيًا حتى اليوم. كتابه “القرآن والتوراة والإنجيل والعلم” يُعتبر مرجعًا مهمًا في الدراسات التي تجمع بين العلم والدين، وهو مصدر إلهام للعديد من الباحثين والمفكرين في العالم العربي والغربي.
من خلال مسيرته العلمية، استطاع بوكاي أن يحقق إنجازات كبيرة في مجال الطب، بالإضافة إلى ترك بصمة واضحة في الفكر الديني والعلمي. وبرز اسمه كأحد العلماء الذين جمعوا بين العلوم الحديثة والديانات السماوية، مما جعلهم يعتبرونه واحدًا من رواد الفكر العلمي الذي يتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية.
الخاتمة
إن حياة موريس بوكاي تعتبر نموذجًا للشخصية التي تجاوزت حدود التخصص الطبي ودخلت في مجالات فلسفية وعلمية ودينية عميقة. وقد قدّم مساهمات هامة ليس فقط في الطب، بل في فهم العلاقة بين العلم والدين. عمله في المملكة العربية السعودية وعلاقته بالملك فيصل بن عبد العزيز تعد جزءًا أساسيًا من مسيرته المهنية والعلمية، حيث استطاع أن يترك إرثًا علميًا وثقافيًا سيظل يذكره الكثيرون للأجيال القادمة.
