العنف يشتت الأسرة ويدّمر المجتمع

يُعدّ العنف من أخطر الظواهر التي تهدد كيان الأسرة وتنسف استقرار المجتمع. فهو ليس فقط سلوكًا عدوانيًا يخرج عن إطار القيم الإنسانية، بل هو أيضًا مؤشر على خلل عميق في النسيج الاجتماعي والنفسي والثقافي للأفراد والجماعات. وتكمن خطورته في امتداده المتشعب الذي لا يقتصر على الشخص المعنَّف فقط، بل يشمل العائلة بأكملها، ويطال المجتمع برمّته من خلال إنتاج أجيال مضطربة نفسيًا، غير قادرة على التفاعل الإيجابي مع الحياة.

في هذا المقال، سنناقش مظاهر العنف الأسري والاجتماعي، وأسبابه المتعددة، وآثاره المدمرة، مع التركيز على العلاقة بين العنف وتفكك الأسرة، وانعكاسات ذلك على بناء المجتمعات، إلى جانب استعراض جهود المواجهة والحلول الممكنة للحد من هذه الظاهرة.

مفهوم العنف وأنواعه

العنف هو استخدام القوة الجسدية أو النفسية أو اللفظية بهدف إلحاق الأذى بالآخر، وهو يتخذ أشكالًا متعددة، منها العنف الجسدي، واللفظي، والنفسي، والجنسي، والاقتصادي، والإهمال، والاستغلال. ويمكن أن يحدث العنف داخل الأسرة (ويُعرف بالعنف الأسري) أو خارجها في الفضاء الاجتماعي، كالعنف المدرسي، أو الوظيفي، أو المجتمعي العام.

أشكال العنف الأسري:

1. العنف الجسدي: كالضرب، والركل، والدفع.

2. العنف النفسي: يشمل التحقير، والتخويف، والتهديد.

3. العنف اللفظي: كالصراخ، والإهانات، والشتم.

4. العنف الاقتصادي: مثل السيطرة على دخل الشريك أو منعه من العمل.

5. العنف الجنسي: يشمل كل فعل قسري ذو طبيعة جنسية.

العنف الأسري وتفكك الروابط العائلية

العنف داخل الأسرة يمثل البيئة المثالية لانهيار العلاقات الأسرية وفقدان الشعور بالأمان والانتماء. فحين يُمارس أحد الوالدين أو كليهما العنف تجاه الأبناء أو الشريك، ينكسر التوازن العاطفي والاحترام المتبادل الذي تقوم عليه الأسرة. وينجم عن ذلك:

• فقدان الثقة: يفقد الأطفال الثقة بأهلهم والمحيطين بهم، مما يدفعهم إلى الانعزال أو السلوك العدواني.

• غياب الحوار: تتحول الأسرة إلى ساحة صراع بدلاً من كونها بيئة دعم وتفاهم.

• التفكك الأسري: ينتهي العنف في كثير من الأحيان إلى الطلاق أو الهجر أو الانفصال العاطفي بين أفراد الأسرة.

• توريث العنف: يميل الأطفال الذين نشؤوا في بيئة عنيفة إلى إعادة إنتاج هذا السلوك لاحقًا.

الأثر النفسي والاجتماعي للعنف على الأطفال

الأطفال هم الضحايا الصامتون للعنف الأسري. وقد أظهرت الدراسات النفسية أن الأطفال الذين يتعرضون للعنف، أو يشهدونه داخل منازلهم، يكونون أكثر عرضة لمشاكل نفسية وسلوكية، مثل:

• القلق والاكتئاب.

• اضطرابات النوم والتبول اللاإرادي.

• التأخر الدراسي.

• العدوانية أو الانطواء.

• الانحراف في مرحلة المراهقة.

كما أن العنف يهدد التنمية الاجتماعية لهؤلاء الأطفال، ويجعلهم عاجزين عن تكوين علاقات صحية، مما ينعكس سلبًا على اندماجهم المجتمعي وسلوكهم كمواطنين في المستقبل.

العنف كمعول لهدم المجتمع

عندما ينتشر العنف في الأوساط العائلية والتعليمية والوظيفية، فإنه يتحول إلى ثقافة سامة تعوق التقدم الاجتماعي والتنمية البشرية. فعوضًا عن أن يسود التفاهم والتعاون، تسود الكراهية والخوف والعداء. والمجتمعات التي يسودها العنف تتميز بالخصائص التالية:

• ارتفاع معدلات الجريمة.

• ضعف الثقة بالمؤسسات العامة.

• هشاشة التماسك الاجتماعي.

• تراجع التنمية الاقتصادية.

• هروب الكفاءات.

إن العنف يؤدي إلى فقدان الطاقات البشرية وتدمير الإمكانات الكامنة في الأفراد، ويحول المجتمعات إلى ساحات للقلق المستمر والصراعات غير المجدية، مما يجعلها عاجزة عن النهوض أو تحقيق أي نوع من التقدم.

الأسباب العميقة للعنف

للعنف أسباب معقدة ومترابطة، تتنوع بين النفسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، من أبرزها:

العنف ضد المرأة وأثره على الأسرة

تتعرض النساء في مجتمعات كثيرة إلى مستويات متعددة من العنف، قد تكون جسدية أو نفسية أو اقتصادية. وهذا النوع من العنف يؤثر ليس فقط على المرأة كفرد، بل على الأسرة بكاملها، إذ يُضعف دور المرأة كمربية ومساهمة في التنمية، ويجعل الأطفال يعيشون في بيئة مشحونة بالخوف والقلق. وتتجلى آثار ذلك في:

• تدهور صحة المرأة النفسية والجسدية.

• فقدانها القدرة على توفير بيئة آمنة للأطفال.

• انتشار ثقافة الإذلال والخنوع أو التمرد والعنف المضاد بين الأبناء.

آثار العنف في المنظومة التعليمية

لا يقتصر أثر العنف على محيط الأسرة، بل يمتد إلى المؤسسات التربوية، حيث يتعرض العديد من الأطفال والمراهقين للعنف من قبل الأقران أو حتى المعلمين. ويتسبب ذلك في:

• ضعف التحصيل الدراسي.

• الانقطاع المبكر عن التعليم.

• انتشار السلوكيات العدوانية أو الانسحابية.

• غياب الاحترام والانضباط داخل المؤسسات التعليمية.

إن بيئة تعليمية قائمة على الخوف لا يمكن أن تخرج طلابًا أسوياء، بل تسهم في إنتاج أفراد عاجزين عن التفكير الإبداعي، وغير قادرين على الاندماج في سوق العمل لاحقًا.

سبل المواجهة والوقاية

لمواجهة ظاهرة العنف يجب اعتماد مقاربة شمولية تدمج الجوانب التربوية، والتشريعية، والثقافية، والنفسية. وتتمثل أبرز الاستراتيجيات في:

1. التربية على اللاعنف منذ الطفولة

تعزيز ثقافة الحوار، والاحترام، وضبط النفس في المناهج التعليمية، وفي المحيط الأسري، مع التركيز على القدوة الحسنة في تصرفات الكبار.

2. تمكين المرأة وتشجيع الاستقلال الاقتصادي

التمكين يعزز من حماية النساء من الابتزاز أو البقاء في علاقات عنيفة لأسباب مالية.

3. تعزيز دور المؤسسات الدينية والإعلامية

يجب توجيه الخطاب الديني والإعلامي نحو قيم التسامح، ونبذ الكراهية، وتعزيز التكافل الأسري والاجتماعي.

4. تفعيل القوانين الرادعة للعنف

تشديد العقوبات على مرتكبي العنف الأسري والاجتماعي، وضمان وصول الضحايا إلى العدالة دون عراقيل.

5. الاستثمار في الدعم النفسي والاجتماعي

توفير مراكز دعم نفسي للأسر والأطفال، وتدريب العاملين في الصحة والتعليم على اكتشاف الحالات المعنفة ومتابعتها.

خاتمة

العنف، بصفته سلوكًا عدوانيًا مرفوضًا أخلاقيًا وإنسانيًا، يمثل خطرًا استراتيجيًا على استقرار الأسرة وبنية المجتمع. إن تفشيه يقوّض قيم المحبة والرحمة التي تشكّل نواة العلاقات الإنسانية، ويحول البيوت إلى سجون نفسية، والمجتمعات إلى ساحات للعداء والخوف. ومن هنا، فإن بناء أسرة سليمة متماسكة ومجتمع سوي متقدم، يتطلب محاربة العنف بكل أشكاله، وتجفيف منابعه من خلال التربية الواعية، والدعم النفسي، والتشريع العادل، والثقافة الإنسانية الراقية.

المراجع:

1. منظمة الصحة العالمية (WHO). “العنف الأسري وتأثيره على الصحة النفسية.”

2. تقرير الأمم المتحدة عن العنف الأسري، 2023.