أبو القاسم الزهراوي: رائد الطب والجراحة في الحضارة الإسلامية

يعتبر أبو القاسم محمد بن أحمد الزهراوي، الذي عرف في الغرب باسم “Albucasis”، أحد أعظم الأطباء والجراحين في التاريخ الإسلامي والعالمي. ولد الزهراوي في الأندلس بمدينة الزهراء القريبة من قرطبة في أواخر القرن العاشر الميلادي (حوالي سنة 936 ميلادية)، وتوفي في بداية القرن الحادي عشر (حوالي 1013 ميلادية). لقد ترك إرثاً طبياً وعلمياً هائلاً أثّر في تطور الطب والجراحة لقرون طويلة، ولا يزال اسمه مرتبطًا بأصول الجراحة الحديثة.

النشأة والتعليم والبيئة العلمية

نشأ أبو القاسم الزهراوي في بيئة مزدهرة علمياً وثقافياً كانت تحت حكم الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر في الأندلس، حيث كانت قرطبة مركزًا حضاريًا منفتحًا على العلوم والفنون. استفاد الزهراوي من هذا الجو العلمي المميز، فدرس الطب والفلسفة، واطلع على الكتب الطبية اليونانية والرومانية والهندية، كما استفاد من التراث الطبي العربي والإسلامي الذي كان في أوجه آنذاك.

كان الزهراوي طبيباً جراحاً، ويُقال إنه مارس الطب في بلاط الخلفاء، كما عمل في مستشفى قرطبة، وهو من أشهر المستشفيات في ذلك العصر. وكان اهتمامه مركزًا على الجراحة، حيث لم يكن هناك في ذلك الوقت تخصص مستقل للجراحة في الحضارة الإسلامية، فكان هو أول من صنّف الجراحة كفرع طبي مستقل له قواعده وتقنياته.

مؤلفات الزهراوي وأثرها العلمي

يُعتبر كتابه “التصريف لمن عجز عن التأليف” (الذي يُعرف أحياناً بـ”الزهراوي في الطب والجراحة”) من أعظم الكتب الطبية التي أُلفت في العصور الوسطى. هذا الكتاب الذي يبلغ من الحجم أكثر من 30 جزءاً (مجلداً)، يعالج موضوعات الطب العامة والجراحة بشكل مفصل، ويضم وصفاً دقيقاً للأدوات الجراحية التي صنعها الزهراوي بنفسه، وبعضها يعد أول تصميم معاصر لتلك الأدوات.

أهم مميزات كتاب التصريف:

• شمولية الموضوعات: يغطي الكتاب معظم مجالات الطب والجراحة، من تشريح الجسم البشري، إلى أمراض العيون والأسنان، وأمراض النساء والتوليد.

• تفصيل الأدوات الجراحية: وصف الزهراوي أكثر من 200 أداة جراحية، مع رسم تفصيلي لكيفية استخدامها، وهذه الأدوات تتضمن مشرطاً، ملاقط، ومثاقب جراحية، وحقن، وغيرها من الأدوات التي لم تكن معروفة بهذا التفصيل في أوروبا قبل قرون.

• تطوير التقنيات الجراحية: قدم وصفاً لتقنيات جراحية حديثة، منها عمليات فتح الخراجات، إزالة حصوات الكلى والمثانة، واستئصال الأورام، وتدخلات أخرى كانت تجرى لأول مرة.

• العناية بأسنان المرضى: اعتبر الزهراوي من أوائل الأطباء الذين اعتنوا بعلاج الأسنان وجراحة الفم، ووصف في كتابه طرق حشو الأسنان وإزالة الأسنان المتضررة.

إسهامات الزهراوي في الجراحة

لقد كان الزهراوي أول من صنف الجراحة بشكل منهجي ومنظم، وفصلها عن الطب الباطني، وركز على التطبيقات العملية. أشار إلى أهمية التعقيم والعناية بالجروح، وهو أمر لم يكن معهوداً في عصره، كما ركز على السلامة أثناء العمليات الجراحية.

عمليات واستعمالات خاصة:

• الجراحة العصبية: وصف كيفية معالجة الجروح في الرأس والجمجمة، وهو مجال كان غامضًا في الطب القديم.

• جراحة العيون: قدم العديد من التقنيات لإزالة الماء الأبيض (إعتام عدسة العين)، وأجرى عمليات دقيقة للعينين.

• طب النساء والتوليد: وصف عمليات جراحية معقدة تخص الرحم والمبايض، واهتم بالعناية بالنساء الحوامل.

أثر الزهراوي على الطب الأوروبي

دخل كتاب الزهراوي إلى أوروبا عبر الترجمات اللاتينية التي جرت في العصور الوسطى، وخاصة في إسبانيا وإيطاليا، مما جعله مرجعاً رئيسياً في الجامعات الأوروبية في العصور الوسطى والنهضة. يعتبره المؤرخون والباحثون أبا الجراحة الحديثة، حيث أثرت كتاباته في جراحين كبار أمثال مونيس وغيليرمو من سالامانكا.

كانت الأدوات الجراحية التي وصفها الزهراوي تستخدم في أوروبا حتى القرن السابع عشر، واحتفظت أفكاره وتقنياته بمكانتها الطبية لقرون طويلة. واحتفت عدة مؤسسات علمية وأكاديمية في العالم باسمه تقديراً لإسهاماته العلمية.

الزهراوي بين العلوم الطبية والفلسفة

لم يقتصر الزهراوي على الجانب التطبيقي فقط، بل أظهر اهتمامًا بالفلسفة الطبية التي تربط بين الجسم والعقل، حيث كان يعتقد أن فهم الإنسان الكامل يجب أن يشمل الاعتناء بكل جوانب صحته. كما كتب في النظريات الطبية التي تعتمد على التشريح الدقيق وفهم وظائف الأعضاء، مساهماً بذلك في بناء قاعدة علمية سليمة تطورت لاحقاً في الطب الغربي.

جدول يوضح بعض الأدوات الجراحية التي وصفها الزهراوي ووظائفها

الخاتمة

يشكل أبو القاسم الزهراوي علامة فارقة في تاريخ الطب الإسلامي والعالمي، إذ جمع بين العلم والتجربة والابتكار، فأسس علم الجراحة بشكل منهجي وقدم إسهامات أثرية لا تُنسى. يمكن القول إن تأثيره امتد عبر العصور، حيث شكل جسرًا بين الطب القديم والحديث، وفتح آفاقًا واسعة في المجال الطبي جعلت منه رمزاً خالداً للعلم والإبداع. يبقى اسمه محفورًا في سجلات الطب، ليس فقط كعالم مسلم أندلسي بل كأحد أعمدة الحضارة الطبية الإنسانية.

المراجع:

1. أبو القاسم الزهراوي، التصريف لمن عجز عن التأليف، ترجمة ودراسة محمد رشاد سالم، دار الفكر، 1986.

2. “Albucasis and Surgery in the Middle Ages” – Journal of the History of Medicine, 1999.