العض.. تبرير لموقف عدواني يلجأ إليه الطفل
يُعد سلوك العض لدى الأطفال من الظواهر السلوكية الشائعة التي يثيرها الوالدون والمعلمون كأحد أشكال العدوانية الطفولية التي تسبب القلق والحيرة حول أسبابها ودوافعها. على الرغم من أن العض يبدو سلوكًا سلبيًا وغير مقبول اجتماعيًا، فإنه يمثل لدى الطفل في مراحل معينة وسيلة تعبيرية واستراتيجية تكيفية تؤدي وظيفة محددة في بناء شخصيته والتعامل مع بيئته المحيطة. يتناول هذا المقال بشكل موسع الظاهرة النفسية والسلوكية للعض عند الأطفال، مع تحليل أسبابها العميقة ودوافعها النفسية، وأثرها في النمو الاجتماعي والعاطفي للطفل، إضافة إلى الاستراتيجيات التربوية والعلاجية التي تساعد على فهم هذا السلوك وإدارته بفعالية.
تعريف العض كظاهرة سلوكية عدوانية
العض هو أحد أشكال العدوان الجسدي المباشر الذي يلجأ إليه الطفل عندما يشعر بالحاجة إلى التعبير عن مشاعر قوية مثل الغضب، الإحباط، أو الخوف. يختلف العض عن أنواع العدوان الأخرى في كونه وسيلة تواصل جسدية تتسم بالعفوية وغالبًا ما تحدث دون تحكم واعي كليًا. وتكون العضة وسيلة يمكن للطفل من خلالها فرض حدود، التعبير عن رغباته أو دفاعًا عن نفسه، خصوصًا في المراحل المبكرة من الطفولة التي لا يمتلك فيها بعد أدوات لغوية متطورة.
العض لا يقتصر على الأطفال فقط، بل يمكن أن يظهر في الحيوانات وبعض الحيوانات البرية كآلية للدفاع أو السيطرة، وهو بذلك سلوك غريزي في أساسه. لكن في سياق الطفولة، يشير إلى استجابة عاطفية وسلوكية معقدة تتداخل فيها عوامل بيئية، بيولوجية، ونفسية.
الأسباب النفسية وراء اللجوء إلى العض
1. التعبير عن مشاعر مكبوتة أو غير مفهومة
يمر الطفل في مراحل نموه بحالات من الارتباك العاطفي والصراعات الداخلية التي يصعب عليه التعبير عنها لفظيًا. العض يكون أحيانًا تعبيرًا عن الغضب أو التوتر أو الخوف الذي يفتقر الطفل إلى الوسائل المناسبة للتعبير عنه. فبدلاً من البكاء أو الصراخ، قد يختار العض كطريقة مؤقتة لتنفيس شحنة عاطفية مكبوتة.
2. الإحساس بعدم السيطرة والرغبة في فرض النفوذ
العض قد يعكس شعور الطفل بالعجز أو عدم السيطرة على بيئته، خصوصًا مع الأطفال الأصغر سنًا أو الذين يواجهون تغييرات مفاجئة في محيطهم كالانتقال إلى روضة جديدة أو ولادة أخ جديد. في مثل هذه الحالات، يلجأ الطفل إلى العض كطريقة لفرض وجوده وتحقيق نوع من السيطرة أو الانتباه.
3. التقليد والتعلم من المحيط
يلعب التقليد دورًا كبيرًا في السلوك العدواني للأطفال، إذ يمكن أن يتعلم الطفل سلوك العض من مراقبة أشخاص آخرين سواء كانوا أقرانًا أو أفرادًا من الأسرة أو حتى في وسائل الإعلام. إذا كان الطفل يشاهد أو يتعرض لسلوك عدواني، فقد يحاول تقليده كطريقة للتفاعل أو كاستجابة لبيئته.
4. البحث عن الانتباه والتفاعل الاجتماعي
في بعض الحالات، يلجأ الطفل إلى العض من أجل جذب الانتباه سواء من الكبار أو الأقران. قد يشعر الطفل بأنه غير ملحوظ أو مهم، والعض وسيلة للحصول على رد فعل فوري من الآخرين، حتى وإن كان رد الفعل سلبيًا.
5. أسباب بيولوجية وعصبية
تشير بعض الدراسات إلى أن اضطرابات في تنظيم الجهاز العصبي، مثل اضطرابات فرط الحركة ونقص الانتباه، قد ترفع احتمالية ظهور سلوكيات عدوانية منها العض. كذلك، ضعف في التحكم الانفعالي أو اضطرابات في ضبط السلوك قد تكون عوامل مساهمة.
مراحل تطور العض في الطفولة
العض في مرحلة الرضاعة (من 6 إلى 12 شهرًا)
في هذه المرحلة، يكون العض وسيلة طبيعية للطفل لاستكشاف العالم المحيط به، حيث يستخدم فمه كأداة لمعرفة الأشياء، وأحيانًا للتهدئة الذاتية عند التسنين. تكون العض هنا عفوية وغير مقصودة كعدوان، بل هي تعبير عن فضول وحاجة جسمانية.
مرحلة ما قبل الطفولة المبكرة (من سنة إلى ثلاث سنوات)
تبدأ الظواهر العدوانية، ومنها العض، بالظهور بشكل أكبر في هذه المرحلة بسبب تطور الاستقلالية والرغبة في التعبير عن الذات، وعدم اكتساب مهارات اللغة بشكل كامل. في هذه المرحلة، يكون العض غالبًا رد فعل على إحباطات متكررة، ومحاولة للتعبير عن الغضب أو الخوف.
مرحلة الطفولة المتوسطة (من 3 إلى 6 سنوات)
مع تقدم النمو اللغوي والاجتماعي، يبدأ الطفل في تعلم وسائل التعبير الأكثر فاعلية مثل الحديث واللعب التعاوني. ومع ذلك، قد يستمر بعض الأطفال في اللجوء للعض كأداة عند الشعور بالضغط أو المنافسة الاجتماعية، لكنه يقل تدريجيًا مع اكتساب مهارات التحكم في الذات.
آثار العض على النمو النفسي والاجتماعي
التأثير على العلاقات الاجتماعية
العض يمثل عائقًا أمام بناء علاقات إيجابية بين الطفل وأقرانه، إذ يؤدي إلى طرده من مجموعات اللعب، وتقليل فرص التفاعل الاجتماعي الطبيعي. الأطفال الذين يمارسون العض باستمرار قد يواجهون رفضًا من الأقران، مما يزيد من إحساسهم بالوحدة والعزلة.
التأثير على التطور العاطفي
العض يعكس وجود مشاكل في تنظيم المشاعر، ما قد يؤدي إلى تعميق مشاعر الإحباط والغضب، ويحول الطفل إلى شخص عدواني أو انطوائي. كما قد يتسبب في شعور الطفل بالذنب أو الخوف من العقاب المستمر، وهو ما يؤثر سلبًا على بناء ثقته بنفسه.
التأثير على الصحة النفسية للطفل والأسرة
يتأثر الطفل والأسرة على حد سواء بالسلوك العدواني، حيث يشعر الآباء والمعلمون بالعجز والحيرة تجاه كيفية التعامل مع هذا السلوك، مما قد يسبب توترًا داخل الأسرة، وقلقًا بشأن مستقبل الطفل وقدرته على التكيف.
استراتيجيات إدارة سلوك العض
تعزيز مهارات التواصل اللفظي والعاطفي
توجيه الطفل نحو التعبير عن مشاعره بالكلام يعد الخطوة الأولى في تقليل العض، من خلال تعليم الطفل كلمات تعبر عن الغضب أو الإحباط بطريقة مناسبة، وتعزيز استخدام لغة الجسد والتواصل الإيجابي.
وضع حدود واضحة للسلوك غير المقبول
يجب أن يكون هناك رد فعل تربوي فوري وواضح عند حدوث العض، مثل القول بحزم “لا نعض، هذا يؤلم”، مع إبعاد الطفل عن الموقف المثير للعض. هذا يساعد الطفل على فهم العواقب السلوكية لأفعاله.
توفير بدائل سلوكية
تقديم خيارات بديلة مثل اللعب بألعاب مخصصة للعض (في مرحلة التسنين)، أو استخدام تقنيات التنفس العميق والاسترخاء لمواجهة التوتر، يتيح للطفل سلوكيات بديلة تساعده على التحكم في دوافعه العدوانية.
دعم الطفل نفسيًا
في الحالات التي يكون فيها العض ناتجًا عن مشاكل عاطفية أو بيئية عميقة، يستدعي الأمر تدخلًا نفسيًا متخصصًا، مثل العلاج السلوكي المعرفي أو العلاج باللعب، لمساعدة الطفل على معالجة أسبابه الجذرية.
إشراك الأسرة والمدرسة
يجب توحيد الجهود بين الأسرة والمدرسة لتوفير بيئة مستقرة وداعمة، تشمل مراقبة سلوك الطفل وتقديم مكافآت لتعزيز السلوك الإيجابي، مع التواصل المستمر بين الطرفين لضمان استمرارية التغيير.
جدول يوضح الفرق بين العض الطبيعي والاستثنائي عند الأطفال
| العنصر | العض الطبيعي | العض الاستثنائي |
|---|---|---|
| المرحلة العمرية | من 6 أشهر إلى 3 سنوات | بعد 3 سنوات أو مستمر لفترة طويلة |
| الدافع | استكشاف، توتر، نقص اللغة | عدوانية، اضطرابات سلوكية أو نفسية |
| تكرار السلوك | متقطع ومحدود | متكرر ومستمر |
| الاستجابة للعقاب والتوجيه | يستجيب بسرعة | صعوبة في الاستجابة |
| تأثيره على العلاقات الاجتماعية | محدود | سلبي كبير |
| الحاجة للتدخل النفسي | غالبًا لا يحتاج | غالبًا يحتاج |
دور البيئة المحيطة في تعزيز أو تقليل سلوك العض
تؤثر البيئة الأسرية والاجتماعية بشكل كبير على سلوك الطفل العدواني، فالبيئة الداعمة التي توفر تواصلًا مفتوحًا وتربية إيجابية تقلل من احتمالية ظهور العض. بالمقابل، يمكن للبيئة المشحونة بالتوتر أو التي تتسم بالعنف أن تزيد من احتمالية ظهوره.
يجب على الوالدين والمربين العمل على خلق بيئة آمنة ومستقرة تعزز من مهارات الطفل في التعبير عن نفسه وتساعده على اكتساب مهارات التحكم في الانفعالات، ما يؤدي إلى تقليل السلوكيات العدوانية بمرور الوقت.
الخلاصة
العض هو سلوك عدواني يعبر به الطفل عن مشاعر داخلية معقدة وأحيانًا عن حاجة للتواصل أو فرض سيطرة في بيئته. فهم أسبابه النفسية والسلوكية يمكن أن يساعد في توجيه الطفل نحو سلوكيات أكثر إيجابية، مع توفير دعم نفسي وتربوي مناسب. التعامل مع العض بشكل علمي مدروس وبصبر يمكن أن يحول هذا السلوك من مشكلة مزعجة إلى فرصة لفهم أعمق لنمو الطفل واحتياجاته النفسية والاجتماعية.
المصادر:
-
تربوية الأطفال في علم النفس التنموي، د. محمد ناصر إبراهيم، دار الفكر العربي، 2018.
-
العدوانية والسلوك عند الأطفال، ماريان إيفرز، ترجمة د. سامي العلي، 2020.
