سر السعادة في قبيلة إفريقية

كيف تكون سعيداً: درس مدهش عن السعادة نتعلّمه من قبيلة إفريقية

في عصرٍ يتّسم بتسارع الحياة، وضغوط العمل، وتفاقم القلق الوجودي، يبحث الناس حول العالم عن وصفة سحرية للسعادة. تتنوع المدارس الفلسفية والنفسية التي تناولت هذا المفهوم من الرواقيين الإغريق إلى علماء النفس الإيجابي المعاصرين. ومع ذلك، تبرز قبيلة إفريقية نائية كنموذج إنساني فريد يحمل درساً مدهشاً حول السعادة، درساً بسيطاً في شكله، لكنه عميقٌ في جوهره، ينبع من قلب الغابات والسهول الإفريقية، ويعيد تعريف السعادة بعيداً عن المادية والاستهلاك.

من هي هذه القبيلة؟

قبيلة الهادزا (Hadza) التي تعيش في تنزانيا، تُعد من آخر المجتمعات التي ما زالت تعيش على نمط الحياة الصياد-جامع (Hunter-Gatherer) دون أن تتأثر بشكل كبير بالنمط الحديث للحياة الحضرية. لا تملك القبيلة ممتلكات مادية بالمعنى التقليدي، ولا تعرف فكرة الادخار أو التراكم أو الملكية الفردية. أعضاء القبيلة لا يعملون لساعات طويلة، ولا يعيشون في هوس التخطيط للمستقبل. ومع ذلك، توصف هذه القبيلة من قبل الباحثين بأنها واحدة من أكثر المجتمعات “سعادة ورضا” على وجه الأرض، وذلك بحسب دراسات ميدانية قامت بها جامعات غربية شهيرة مثل جامعة هارفارد وجامعة كاليفورنيا.

السعادة خارج إطار الاستهلاك

عندما نقارن بين نمط الحياة في المجتمعات الحديثة ونمط الحياة في قبيلة الهادزا، نجد أن الفرق الجذري يكمن في التصورات الذهنية حول معنى الحياة، والزمن، والنجاح، والمكانة الاجتماعية. المجتمعات الصناعية تقوم على مفاهيم الإنجاز، والتقدم المستمر، والتفوق على الآخر، والربح والخسارة. في حين أن قبيلة الهادزا تقوم على مبدأ التوازن مع الطبيعة، والاكتفاء، والتعاون الجماعي، والعيش في اللحظة.

الهادزا لا يعرفون التقويم الميلادي، ولا الساعات، ولا الأجندات المكتبية، ومع ذلك يملكون وقتاً وافراً للراحة، والضحك، والتأمل، والجلوس حول النار. في حين يعيش الكثير من البشر المعاصرين وسط ضغوط “النجاح” والخوف من “الفشل”، يعيش الهادزا خارج ثنائية الفوز والخسارة، ويكتفون بمجرد أن يكونوا أحياء في اللحظة الراهنة.

دراسة علمية على قبيلة الهادزا

في دراسة نفسية ميدانية نُشرت في مجلة Nature Human Behaviour عام 2020، قام الباحثون بتقييم مستويات الرضا عن الحياة لدى أفراد الهادزا باستخدام أدوات تقييم عالمية، وتمت مقارنة نتائجهم مع مجتمعات متقدمة تقنياً مثل الولايات المتحدة والدنمارك. النتائج كانت صادمة: أظهرت قبيلة الهادزا مستويات رضا وسعادة تقارب أو تتجاوز مستويات سعادة بعض أغنى شعوب الأرض. الملفت أن هذه النتائج ظهرت رغم غياب أي مؤشرات اقتصادية أو تكنولوجية يمكن اعتبارها “مسببة” للسعادة وفق النظرة الغربية.

عناصر السعادة في ثقافة الهادزا

1. الانتماء المجتمعي العميق

أفراد القبيلة يشعرون بانتماء عميق إلى المجموعة. لا أحد يترك وحيداً، لا أحد يُستثنى من الطعام أو اللعب أو التفاعل الاجتماعي. كل طفل يُربّى من قبل الجميع، وكل كبير في السن يُحترم ويُعامل برفق. هذا الشعور بالانتماء غير المشروط يعزز لدى الإنسان الإحساس بالأمان النفسي والاجتماعي.

2. العيش في اللحظة الحاضرة

لا تُوجد مشاعر قلق مزمن تتعلق بالمستقبل، ولا حسرة على الماضي. اليوم هو كل ما لديهم. الغد سيأتي بطعامه، كما جاء الأمس. هذه الفلسفة اليومية في العيش تذكّر بتعاليم الزن البوذية التي تؤكد على أن “اللحظة الحالية هي كل ما نملك”.

3. الارتباط الحيّ بالطبيعة

الهادزا يعيشون بتناغم تام مع بيئتهم الطبيعية. لا يفرطون في الصيد، ولا يقطعون أشجاراً أكثر مما يحتاجون. في هذا النمط من الحياة، يشعر الإنسان بأنه جزء من كل، وليس سيداً متعالياً على الكون. هذه العلاقة الروحية مع الطبيعة تنعكس في شعور داخلي بالانسجام والطمأنينة.

4. الحد الأدنى من الممتلكات

الاستغناء عن التملك يجعل الهادزا أكثر خفة من الناحية النفسية. لا أحد يخاف أن يُسرق، أو أن يخسر استثماراً، أو أن تنهار قيمة مدّخرة. حين تنعدم فكرة الملكية، يزول جزء كبير من المخاوف التي تثقل كاهل إنسان المدينة الحديثة.

5. الموسيقى والرقص كطقوس جماعية

الغناء والرقص ليسا ترفاً بل طقساً يومياً في حياة الهادزا. عبر هذه الطقوس، يتم التعبير عن الفرح والحزن، ويحدث نوع من “التحرر العاطفي” الذي يخلّص النفس من التراكمات.

مقارنة ثقافية: الجدول التالي يوضح الفروقات الجوهرية بين مفاهيم السعادة في حياة الهادزا والمجتمعات الغربية

إعادة تعريف السعادة من منظور “الهادزا”

تعلّمنا قبيلة الهادزا درساً بالغ الأهمية: السعادة لا تُشترى، ولا تُستخرج من أدوات رقمية، ولا تُؤسس على المظاهر. إنها تنبع من القلب البشري حين يتحرر من الخوف، ويتصالح مع اللحظة، ويشعر بأنه جزء من جماعة متحابة وبيئة راعية. الفلسفة التي يقدمها الهادزا ليست وصفة سهلة، لكنها تذكير عميق بأن العودة إلى الأساسيات، إلى البساطة، إلى الفطرة، قد تكون المفتاح إلى حياة أكثر سكينة وسعادة.

هذه القبيلة النائية تُعيد تعريف ما يعنيه أن تكون إنساناً سعيداً، وتكشف لنا أن السعادة لا تأتي بالضرورة من التقدم التكنولوجي أو النمو الاقتصادي، بل من القدرة على العيش بوعي، وبقلب مفتوح، وبدون خوف من القادم.

المصادر والمراجع

• Marlowe, F. (2010). The Hadza: Hunter-Gatherers of Tanzania. University of California Press.

• Apicella, C. L., et al. (2020). “Hunter-Gatherers and the Origins of Human Sociality.” Nature Human Behaviour, Springer Nature.