الضرب يمحو الشخصية ويزيد من العنف

مقدمة

يُعد الضرب أحد أكثر أشكال العنف الأسري والاجتماعي شيوعًا، ويُمارس في الغالب ضد الأطفال والنساء، وأحيانًا بين أفراد المجتمع في المؤسسات التعليمية أو بيئات العمل. وعلى الرغم من التقدم الحضاري والوعي الحقوقي الذي شهده العالم في العقود الأخيرة، لا يزال الضرب يُبرر أحيانًا كوسيلة “تأديبية” أو “تربوية”، ما يضع علامات استفهام حول فهم المجتمع للفروقات بين التأديب والعنف. إن الضرب لا يُهذب السلوك ولا يُقوم الأخلاق، بل يترك ندوبًا نفسية عميقة قد تمتد طوال حياة الإنسان، وتؤثر في بناء شخصيته وتعامله مع الآخرين، وتُنتج في نهاية المطاف أفرادًا أكثر عدوانية وانغلاقًا وضعفًا في الثقة بالنفس. فالمجتمع الذي يتسامح مع العنف يُعيد إنتاجه بأشكال متجددة ومتفاقمة.

الضرب كأداة لتدمير الشخصية

الشخصية الإنسانية تتكوَّن وتتشكل عبر التفاعل مع البيئة المحيطة، ومعايير التربية، وأنماط التواصل داخل الأسرة والمجتمع. عندما يُستخدم الضرب كوسيلة للتربية أو التأديب، يتم إدخال عنصر الخوف والإهانة والمهانة في تفاعل الفرد مع الآخرين. فالطفل الذي يُضرب باستمرار ينشأ وهو يربط السلوك بالتهديد لا بالاقتناع، ويخشى التعبير عن نفسه خوفًا من العقاب، ما يؤدي إلى قمع المشاعر وفقدان القدرة على التفاعل الاجتماعي الصحي.

ضعف تقدير الذات وفقدان الثقة بالنفس

من أبرز الآثار النفسية التي يخلفها الضرب تدمير تقدير الذات. الطفل أو المراهق الذي يتعرض للضرب يشعر بالدونية، وأنه غير جدير بالحب أو الاحترام. يبدأ هذا الإحساس في التشكل مبكرًا، ويتحول مع الزمن إلى عقدة داخلية تؤثر على اتخاذ القرار، والتعبير عن الرأي، والانخراط في المجتمع. لا يثق بنفسه، ولا يثق بالآخرين، ويُصاب غالبًا بالقلق الاجتماعي والانطواء.

الشخصية الانقيادية أو العدوانية

هناك نمطان شائعان من الشخصية يتطوران نتيجة التعرض للضرب: الشخصية الانقيادية والشخصية العدوانية. فالفرد قد يتحول إلى شخص سلبي لا يستطيع الدفاع عن حقوقه، يخاف المواجهة، ويُرضي الآخرين على حساب ذاته، لأن الضرب علمه أن الاعتراض يقابَل بالألم والإذلال. أو قد يتطور الأمر في الاتجاه المعاكس، فيصبح الشخص عدوانيًا، يُقلد السلوك العنيف الذي تعرّض له، ويفرض سلطته على الأضعف منه، كما يفعل بعض الأطفال الذين يُعنفون في المنزل فيُمارسون العنف ضد زملائهم في المدرسة.

الضرب وتكريس العنف المجتمعي

عندما يُصبح الضرب وسيلة مقبولة في التربية أو التواصل داخل المجتمع، فإن ذلك يُنتج ثقافة عامة تتقبل العنف وتُبرره. هذه الثقافة لا تكتفي بالتسامح مع العنف بل تُعيد إنتاجه في مختلف مستويات الحياة: في المدارس، في الأسرة، في أماكن العمل، وفي الشارع.

الضرب في الأسرة: مصنع العنف الصامت

الأسرة هي البيئة الأولى التي يتعلم فيها الإنسان مفاهيم الحب والكرامة والتفاهم. وإذا كانت هذه البيئة قائمة على العنف والضرب، فإن ذلك يُمهد الطريق لنشوء أجيال مأزومة نفسيًا. فالطفل الذي يتعرض للضرب داخل أسرته يخرج إلى المجتمع محملاً بالغضب والخوف والعدوان المكبوت. ومن ثم، يتحول إلى شخص يعاني من الاضطرابات السلوكية، أو يتبنى العنف وسيلة للتعامل مع الآخرين.

العنف المدرسي: استمرار لنهج الضرب

الضرب في المدرسة، سواء من قبل المعلمين أو بين الطلاب، يُعد امتدادًا لنهج العنف الذي يبدأ في البيت. ويُساهم في تحطيم العملية التعليمية وتحويل البيئة المدرسية إلى مصدر للتوتر والخوف لا للتعلم والمعرفة. كما أن الطلاب الذين يتعرضون للضرب يتراجع مستواهم الأكاديمي، وينخفض دافعهم للتعلم، ويزيد احتمال تسربهم من التعليم.

العنف في أماكن العمل والمجتمع

الفرد الذي نشأ في بيئة تُجيز الضرب والعنف قد يُمارس لاحقًا نفس الأسلوب في حياته المهنية أو الاجتماعية. وقد يُصبح مديرًا متسلطًا أو شريكًا مؤذيًا أو أبًا عنيفًا. فالعنف لا يُولد فراغًا، بل يتكاثر ويتحول إلى أنماط سلوكية تتناقلها الأجيال وتؤثر في السلم المجتمعي.

الأثر النفسي طويل الأمد للضرب

أثبتت الدراسات النفسية أن الضرب لا يؤدي فقط إلى ضرر لحظي، بل يُسبب تغيرات دائمة في بنية الدماغ ووظائفه، خصوصًا لدى الأطفال. كما أنه يُؤثر في تكوين الشخصية، والعلاقات الاجتماعية، والحالة النفسية.

اضطرابات القلق والاكتئاب

يتعرض الأطفال الذين يُضربون باستمرار إلى خطر الإصابة باضطرابات القلق العام والاكتئاب المزمن في مراحل لاحقة من حياتهم. إذ يشعر الطفل أن العالم مكان غير آمن، وأن العنف يمكن أن يحدث في أي لحظة، حتى من قبل الأشخاص الذين يُفترض أن يحمونه.

اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)

في الحالات الشديدة، يمكن أن يُعاني الشخص من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، وهي حالة نفسية تظهر نتيجة التعرض المستمر لصدمات نفسية وعنيفة. تشمل الأعراض الكوابيس، والأفكار القهرية، ومشاعر الخوف أو الذنب، والانفصال عن الواقع.

الميل إلى السلوك الإجرامي

كشفت دراسات عدة عن وجود علاقة بين التعرض للضرب في الطفولة والميل لاحقًا إلى الانخراط في سلوكيات منحرفة أو إجرامية. فالعنف يولد العنف، ومن يتعرض له يتعلم أن العدوان هو وسيلة لحل النزاعات، وأن السلطة تُفرض بالقوة لا بالحوار.

البدائل التربوية والتواصلية للضرب

تتطلب مكافحة ظاهرة الضرب إعادة النظر في أساليب التربية والتعليم والتواصل داخل الأسرة والمجتمع. يجب أن تُبنى العلاقة بين الطفل ومربيه على الاحترام والحوار، لا على العقاب البدني.

التربية الإيجابية

تعتمد التربية الإيجابية على مبدأ احترام الطفل ككائن مستقل له حقوق ومشاعر. يُشجع هذا النمط من التربية على استخدام التشجيع بدلًا من التوبيخ، والتوجيه بدلًا من العقاب، والتركيز على بناء العلاقة العاطفية السليمة بين الطفل ومربيه.

استخدام الحوار بدلاً من القسوة

من الضروري تعليم الآباء والمربين مهارات التواصل الفعال، مثل الإصغاء، والتعبير عن المشاعر، والتفاوض مع الطفل عند الخطأ، ووضع حدود تربوية واضحة دون لجوء إلى الإهانة أو الضرب.

تقنيات تعديل السلوك

يمكن استخدام تقنيات تربوية فعالة لتقويم السلوك دون الحاجة للعقاب الجسدي، مثل نظام التعزيز الإيجابي، والعقوبات المنطقية، والحرمان المؤقت، والخيارات المحددة، وكلها تهدف إلى مساعدة الطفل على فهم نتائج أفعاله بشكل منطقي وواعٍ.

الجدول التالي يوضح الفرق بين أساليب التربية بالعنف وأساليب التربية الإيجابية:

الآثار القانونية والاجتماعية للضرب

العديد من الدول أدرجت الضرب ضمن أشكال العنف التي يُعاقب عليها القانون، خصوصًا إذا تعرّض له الأطفال أو النساء أو المسنون. ومع ذلك، فإن التطبيق العملي لهذه القوانين لا يزال دون المستوى في كثير من المجتمعات، بسبب ثقافة التبرير، أو نقص التوعية، أو ضعف آليات الحماية.

قوانين الحماية من العنف الأسري

تبنت بعض الدول العربية تشريعات خاصة لحماية الأطفال والنساء من العنف الأسري، تضمنت آليات التبليغ، والتدخل الاجتماعي، والعقوبات الرادعة. كما شجعت على إنشاء مراكز حماية وإيواء للضحايا، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي لهم.

دور الإعلام والتعليم

للإعلام والمدرسة دور أساسي في نشر ثقافة اللاحقوق واللاعنف، من خلال البرامج التوعوية، والمناهج التربوية، وفتح قنوات الحوار المجتمعي. فالتغيير لا يحدث فقط عبر القوانين، بل يحتاج إلى تحول ثقافي طويل الأمد.

خاتمة

الضرب ليس مجرد فعل عنيف ينتهي بعد لحظات، بل هو مسار من الانتهاك النفسي والجسدي يُدمر شخصية الإنسان ويُعيد إنتاج العنف في كل مناحي الحياة. في الوقت الذي نسعى فيه لبناء مجتمعات متقدمة وسليمة، من الضروري أن نُعيد النظر جذريًا في أساليبنا التربوية وأن نستبدل ثقافة القسوة بثقافة الفهم، وأن نؤسس لبنية نفسية واجتماعية ترفض العنف بجميع أشكاله.

المصادر

1. منظمة الصحة العالمية (WHO) – تقرير العنف ضد الأطفال، 2022

2. الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA) – آثار العقاب البدني على الصحة النفسية، 2021