السكوت بين الحكمة والخطر

السكوت.. ليس دائماً من ذهب

السكوت، هذا السلوك البشري الذي كثيراً ما يُنظر إليه باعتباره رمزاً للحكمة والتأمل وضبط النفس، يقال عنه في المثل العربي الشهير “إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب”. وقد شاع هذا المثل وتداولته الألسنة جيلاً بعد جيل، حتى أصبح كقاعدة سلوكية تحث على الصمت، وتربط بين الحكمة وبين الامتناع عن الحديث. غير أن الواقع الإنساني والحياة الاجتماعية المعقدة، تكشف لنا يوماً بعد يوم، أن السكوت ليس دائماً من ذهب، بل قد يكون أحياناً تواطؤاً، أو هروباً، أو قيداً يكبل الوعي والحق والعدالة.

السكوت بين الحكمة والخذلان

ليس من شك في أن هناك مواقف يكون فيها السكوت من ذهب فعلاً، كتلك اللحظات التي قد يؤدي فيها الكلام إلى تصعيد التوتر، أو إلحاق الأذى، أو هدر الطاقة في جدال عقيم. في مثل هذه السياقات، يكون الصمت تعبيراً عن النضج العاطفي، وضبط الانفعال، وتقدير الموقف. ولكن هذه الصورة لا تكتمل دون أن نرى الوجه الآخر للعملة، حيث يتحول السكوت من فضيلة إلى نقيصة، ومن قوة إلى ضعف، ومن حكمة إلى جريمة في حق الذات والآخرين.

السكوت عن الظلم مثلاً، لا يمكن وصفه إلا بالخذلان. حين يصمت الإنسان عن الدفاع عن مظلوم، أو يغض الطرف عن انتهاك للحقوق، فهو بذلك يكرّس ثقافة الجبن والانسحاب، ويسهم في استمرار الاستبداد والتعدي. كذلك فإن السكوت عن الخطأ داخل المؤسسات أو داخل العلاقات الاجتماعية لا يعكس احتراماً بقدر ما يعكس تواطؤاً أو خشية أو مصالح مضمرة.

الصمت القاتل: أثره النفسي والاجتماعي

إن الصمت المطوّل الذي يُمارس قهراً، سواء بسبب الخوف أو التربية الصارمة أو القمع الاجتماعي والسياسي، يخلق لدى الأفراد شعوراً بالاحتباس والانغلاق. تتراكم المشاعر المكبوتة والآراء غير المعبّر عنها، وتتحول إلى توتر داخلي، قد يتجسد في القلق المزمن، أو الانفجارات العاطفية غير المتوقعة، أو حتى الأمراض النفسية والجسدية.

في البيئات التي تُقيَّم فيها الطاعة والصمت على أنها فضائل أخلاقية، يتم قتل الإبداع والمبادرة والنقد البنّاء. تذبل الشخصية الفردية، وتُستبدل بروح جماعية تخشى السؤال والتفكير الحر. هنا يصبح الصمت قاتلاً، لا ذهباً.

السكوت في العلاقات الإنسانية

العلاقات الإنسانية، سواء كانت أسرية أو عاطفية أو مهنية، لا يمكن أن تنمو وتتطور في ظل الصمت المزمن. الصمت الطويل في العلاقات قد يدل على الانفصال العاطفي، أو تراكم الإحباطات، أو الإعراض عن الإصلاح. فالحب، على سبيل المثال، لا يتغذى على الصمت، بل على الحوار، والتواصل، والتعبير عن المشاعر والاحتياجات. الصمت في العلاقات الزوجية قد يُفسَّر كعلامة على البرود أو النفور، ويؤدي إلى فجوة يصعب ردمها مع مرور الوقت.

إن غياب الكلام لا يعني بالضرورة غياب المشاكل، بل قد يعني اختناقها في أعماق النفس. وقد بينت الدراسات النفسية أن الأزواج أو الأصدقاء الذين لا يتحدثون عن مشكلاتهم أو يتجنبون المواجهة الحوارية، معرضون بنسبة أكبر للانفصال أو البرود العاطفي.

الصمت كأداة للهيمنة

في السياقات السياسية والثقافية، يُستخدم السكوت كأداة للهيمنة. فحين تُزرع في عقول الأفراد فكرة أن الصمت هو دليل على الأدب أو الاحترام، فإن ذلك يفتح الباب أمام إسكات الأصوات النقدية، وقمع الحريات، وتجفيف منابع التغيير الاجتماعي. الأنظمة القمعية تدرك جيداً أن الصوت الحر أخطر من السلاح، لذا تسعى لتمجيد ثقافة الصمت، وتشويه صورة كل من يرفع صوته ويجاهر بالحقيقة.

هذا النوع من الصمت لا يُولد في فراغ، بل يُزرع في التعليم، وفي الإعلام، وفي الأسرة، وفي ثقافة الخوف. ويصبح بذلك عقيدة سلوكية تتوارثها الأجيال، حتى يفقد الناس القدرة على التمييز بين الصمت النابع من الحكمة، والصمت المفروض بالقهر.

الأطر التربوية والثقافية لتغذية السكوت

من المؤسف أن الكثير من أساليب التربية العربية تكرّس الصمت باعتباره طاعة واحتراماً. يُمنع الأطفال من التعبير عن آرائهم أمام الكبار، وتُمنع النساء من مناقشة شؤون الأسرة أو المجتمع، ويُربّى الأفراد على أن السلامة في الصمت، وأن من تكلم ندم. هذا التكوين النفسي والثقافي يخلق مواطنين خائفين من السؤال، مشككين في أنفسهم، عاجزين عن التعبير عن احتياجاتهم وآلامهم وتطلعاتهم.

في بيئة تعليمية لا تشجع على المشاركة أو النقد، يكبر الأطفال وهم يعتقدون أن التعبير عن الذات تجرؤ غير مقبول، وأن أفضل طريقة للنجاة هي الصمت. وحين ينتقل هذا النمط إلى سوق العمل أو الحياة الاجتماعية، تظهر جلياً مظاهر الانسحاب الاجتماعي، وقلة المبادرة، وضعف الانخراط في الحياة العامة.

بين التعبير والسكوت: التوازن الفعّال

إن البديل لا يكون في استبدال السكوت بالكلام على إطلاقه، بل في بناء ثقافة توازن بين متى نتكلم ومتى نصمت. هذا التوازن لا يُكتسب بالفطرة فقط، بل بالتدريب والتربية الواعية. يجب أن يتعلم الإنسان متى يكون السكوت فعلاً أداة ضبط للنفس، ومتى يكون خيانة للمبادئ.

التعبير الواعي، سواء بالكلام أو بالكتابة أو بالفعل، هو مفتاح للحرية والنضج والفاعلية. كما أن القدرة على الإنصات الحقيقي لا تعني الصمت السلبي، بل تعني الانتباه العميق، ثم التفاعل الصادق. الصمت البنّاء هو الذي يسبق القول الحكيم، لا الذي يُستخدم للهروب من المواجهة أو كبت الألم.

السكوت والتواطؤ في المجال المهني

في بيئة العمل، يظهر نوع خاص من الصمت يُسمى “الصمت التنظيمي”، حيث يمتنع الموظفون عن التعبير عن آرائهم أو انتقاداتهم خوفاً من العقاب أو فقدان الوظيفة أو التهميش. هذا النوع من الصمت لا يضر الفرد فقط، بل المؤسسة كلها، إذ يمنع تطوير الأداء وتحسين الجودة.

وقد كشفت دراسات متعددة في علم الإدارة أن المؤسسات التي تشجع على التعبير الحر والنقد الداخلي، هي أكثر قدرة على الابتكار، وأكثر مرونة في مواجهة الأزمات. على العكس، فإن ثقافة السكوت داخل المؤسسات تؤدي إلى تراكم الأخطاء، وتكرار الإخفاقات، وانتشار جو من الريبة وعدم الثقة.

جدول يوضح الفرق بين السكوت الإيجابي والسكوت السلبي:

التحولات المعاصرة وثقافة التعبير

في العصر الرقمي، بدأت تتغير ملامح السكوت والصوت. الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي أعطت الأفراد مساحة للتعبير لا تعرف الرقابة التقليدية. صار من الممكن للناس أن يقولوا ما كانوا يسكتون عنه طويلاً، ولكن حتى هذه المساحة لم تسلم من الضغوط، سواء عبر التنمر، أو الرقابة الإلكترونية، أو حملات التشويه.

من جهة أخرى، ساهمت هذه المنصات في خلق ثقافة من التعبير المفرط والفوضوي أحياناً، ما يدعو للحذر من الوقوع في فخ الكلام الزائد الذي لا يحمل قيمة أو هدفاً. ومن هنا، تبرز الحاجة لتربية جديدة، توازن بين الحرية والمسؤولية، وبين الصمت المتأمل والكلام المؤثر.

خاتمة: تحرير الوعي من سطوة الصمت

السكوت لا يستحق أن يكون ذهباً دائماً، بل يجب إعادة النظر في قيمته من خلال سياقاته المختلفة. لا يمكن أن نحكم على سلوك إنساني مثل الصمت، بمعزل عن نواياه ونتائجه وظروفه. فكما أن الكلام قد يجرح، قد يداوي، فإن الصمت قد يهدئ أو يخنق.

تحرير الإنسان يبدأ من تحرير صوته، من منحه الحق في التعبير، والسؤال، والاعتراض، والبناء عبر الكلمة. العالم لا يتغير بصمتنا، بل بصوتنا حين يكون نابعاً من وعي، ومسؤولية، وإيمان بحق الحياة في العدل والحرية.

المراجع:

• Morrison, E. W., & Milliken, F. J. (2000). Organizational Silence: A Barrier to Change and Development in a Pluralistic World. Academy of Management Review.

• Freire, Paulo. (1970). Pedagogy of the Oppressed. New York: Continuum.