لماذا سميت الفاتحة بالسبع المثاني؟
مقدمة:
تعد سورة الفاتحة من أعظم سور القرآن الكريم وأشهرها، فقد احتلت مكانة خاصة في قلوب المسلمين لما تحمله من معاني عظيمة وتوجيهات ربانية. تعتبر السورة السابعة في ترتيب سور القرآن الكريم، لكنها أول السور التي يبدأ بها المسلم صلاته اليومية. إن الفاتحة ليست مجرد دعاء عادي، بل هي بمثابة جوهرة روحية تعبّر عن العلاقة بين العبد وربه. من أبرز الألقاب التي أُطلقت على هذه السورة العظيمة هو لقب “السبع المثاني”. فما المقصود بهذا اللقب؟ ولماذا سميت الفاتحة بهذا الاسم؟
في هذا المقال، سنتناول جميع الأبعاد التي أدت إلى إطلاق هذا اللقب على سورة الفاتحة، وكيفية تفاعل المسلمين مع معانيها العميقة عبر العصور.
السبع المثاني: المعنى اللغوي والشرعي
إن كلمة “المثاني” هي جمع كلمة “مثنى”، والتي تعني الشيء الذي يتم تكراره أو يتكرر. وقد ورد ذكر “السبع المثاني” في القرآن الكريم في قوله تعالى: “وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ” (الحجر: 87).
إن هذا التعبير يدل على أن الفاتحة تحتوي على سبع آيات، وهي آيات تتكرر قراءتها بشكل دائم في الصلاة، حيث إن المسلم يردد هذه السورة في كل ركعة من صلواته الخمس. من هنا جاء الربط بين السورة وعدد الآيات فيها وبين لفظ “المثاني”. ففي كل صلاة، يتلو المسلم هذه السورة، وكأنها تتكرر وتُعاد بشكل مستمر، وهو ما يعكس معنى “المثاني” الذي يشير إلى التكرار أو التثنية.
عدد الآيات: هل السورة تتألف من سبع آيات؟
كما يتضح من النص القرآني، فإن السورة تتألف من سبع آيات، وهي:
-
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
-
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
-
الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
-
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
-
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
-
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
-
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّآلِّينَ
إذاً، وفقًا لهذه الآيات، يتضح أن السورة هي فعلاً سبع آيات، مما يبرر تسميتها “السبع المثاني”. وتستند هذه التسميّة إلى التركيب العددي للسورة، الذي يتيح تكرارها بشكل دائم في الصلاة، وهو ما يضيف بُعدًا جديدًا لفهم كيفية ارتباط التكرار بالروحانية التي تقدمها السورة.
المعاني العميقة في الفاتحة
من الناحية الروحية، تعتبر سورة الفاتحة بمثابة تلخيص لمفاهيم كبيرة تتعلق بالعلاقة بين العبد وخالقه. فهي تبدأ بذكر اسم الله – وهو أسمى وأقدس الأسماء – ثم تذكر أبرز صفات الله تعالى من رحمة ورحمانية وملك يوم الدين. تأتي السورة بعد ذلك لتوجه المسلم إلى العبادة الحقة، وتحثه على الإخلاص لله وحده دون سواه، في طلب الهداية والرحمة.
هذه السورة تعبر عن بداية التواصل مع الله في الصلاة، بحيث يقدم المسلم في كل مرة يتلو فيها الفاتحة شكوى أو دعاء أو طلباً للهداية. يُعاد تكرار السورة في كل ركعة، وهو تكرار يحمل في طياته تذكيرًا دائمًا بمبدأ الخضوع لله والاعتماد على رحمته، مما يبعث في النفس حالة من السكينة والاطمئنان.
التكرار والتثنية في السورة
التكرار في سورة الفاتحة لا يتوقف فقط عند تكرارها في كل ركعة من الصلاة، بل أيضاً عند تكرار الألفاظ التي تظهر في السورة نفسها. على سبيل المثال، نجد أن صفة الرحمة تتكرر مرتين في الآيتين الأولى والثانية: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ” و”الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ”. وهذه التكرارات تحمل معاني عميقة، إذ أن الرحمة هي أساس العلاقة بين العبد وربه، وهي القيمة المحورية في الإسلام التي تُكرس طوال الصلاة.
علاوة على ذلك، فإن التكرار يعزز التركيز الروحي ويجعل العبد يتذكر هذه القيم في كل مرة يردد فيها السورة، فيكون كل تكرار له أثره في النفس. وبالتالي، فإن “المثاني” تشير إلى التكرار الذي يحدث على أكثر من مستوى، بدءًا من تكرار السورة في الصلاة، وصولاً إلى تكرار المعاني المركزية التي تحملها السورة في كل آية.
هل هناك دلالات أخرى وراء التسمية؟
البعض يرى أن كلمة “المثاني” لا تتعلق فقط بعدد الآيات، بل قد تحمل معاني أعمق، تتعلق بتكرار الأهداف الروحية والتوجيهات الإلهية التي تسعى السورة لتحقيقها في النفس البشرية. فهي تمثل أسلوبًا تعليميًا فريدًا يعزز من تفاعل المسلم مع آيات القرآن الكريم بشكل مستمر. على سبيل المثال، فإن الإنسان عندما يقرأ الفاتحة يوميًا بشكل متكرر، يتذكر دائمًا أهمية التوحيد، والإيمان بالرحمة الإلهية، والاعتماد على الله في كل شيء.
وبالإضافة إلى ذلك، يذهب بعض العلماء إلى أن “المثاني” تشير إلى سائر القرآن الكريم، باعتبار أن السورة تفتح الطريق لفهم القرآن بشكل أوسع. فهي تمثل المبادئ الأساسية التي يقوم عليها كل ما جاء في القرآن، من توحيد لله تعالى إلى التشريع الذي ينظم حياة الإنسان في جميع جوانبها.
السبع المثاني في التفسير القرآني
إن تفسير كلمة “المثاني” في سياق سورة الفاتحة أخذ حيزًا واسعًا من اهتمام علماء التفسير، فقد تناولت التفاسير الكلاسيكية والمودرن هذا المصطلح بطرق متنوعة. فمثلاً، هناك من فسر “المثاني” على أنها تعني السور التي تتكرر قراءتها، والتي تحوي معاني متجددة باستمرار. كما أن بعض المفسرين قالوا إن “المثاني” لا تقتصر على الفاتحة فقط، بل تشمل أيضًا ما جاء بعدها من سور القرآن التي تشترك في تكرار الدعاء لله وطلب الهداية.
وذكر علماء آخرون أن كلمة “المثاني” تشير إلى تلك السور التي تشارك الفاتحة في كونها تركز على الجوانب الأخلاقية والإيمانية، مثل التوحيد، والرحمة، والهداية، وأن هذه المبادئ تتكرر عبر القرآن الكريم بأسره، ولكن الفاتحة تأتي في مقدمة هذا التكرار باعتبارها الركيزة الأساسية التي ينطلق منها المسلم في صلاته.
خاتمة
إن تسمية سورة الفاتحة “بالسبع المثاني” هي أكثر من مجرد تسمية عددية؛ فهي تعبّر عن الجوانب الروحية العميقة التي تحملها السورة. فهي تجمع بين التكرار والتثنية، إذ تُعاد قراءتها بشكل مستمر في الصلاة لتذكّر المسلم بصلته المستمرة مع الله. التكرار في الفاتحة ليس مجرد إعادة كلام، بل هو تعزيز لقيم عظيمة وهادفة تساهم في رفع المستوى الروحي للإنسان، وتجعل منه عبدًا أكثر إخلاصًا لله، وأكثر تقوى في عمله وحياته اليومية.
وبذلك، تظل سورة الفاتحة، التي نُسبت إليها هذه التسمية، عنصرًا أساسيًا في حياة المسلم، ليس فقط في أوقات الصلاة، بل في مختلف مواقف حياته اليومية التي يحتاج فيها إلى العون والإرشاد من الله سبحانه وتعالى.
