الذاكرة قصيرة الأمد: مدتها وسعتها
تعتبر الذاكرة قصيرة الأمد أحد مكونات النظام العصبي المعقد الذي يعمل على معالجة وتخزين المعلومات في الدماغ. رغم أن هذا النوع من الذاكرة لا يحظى بالاهتمام الكبير مقارنةً بالذاكرة طويلة الأمد، فإنه يلعب دورًا حيويًا في حياتنا اليومية، إذ يساعد في إدارة وتنظيم معلوماتنا الفورية والضرورية. في هذا المقال، سنناقش بالتفصيل ما هي الذاكرة قصيرة الأمد، مدتها، سعتها، آليات عملها، وأهمية فهمها في مختلف مجالات الحياة.
تعريف الذاكرة قصيرة الأمد
الذاكرة قصيرة الأمد (أو الذاكرة العاملة) هي النظام الذي يتعامل مع المعلومات التي نتعامل معها في الوقت الحاضر أو التي نحتاج إلى تذكرها لفترة قصيرة. على عكس الذاكرة طويلة الأمد، التي تخزن المعلومات لمدة طويلة (مثل الأحداث التي وقعت في الماضي البعيد أو المعلومات التي تعلمناها منذ سنوات)، فإن الذاكرة قصيرة الأمد تختص بتخزين المعلومات المؤقتة التي نحتاجها للحظات معينة، مثل تذكر رقم هاتف مؤقتًا أو كيفية الوصول إلى مكان معين.
مدة الذاكرة قصيرة الأمد
تتراوح مدة الذاكرة قصيرة الأمد من ثوانٍ إلى دقائق قليلة. عند تعرضنا لمعلومة جديدة، تُخزن هذه المعلومة في الذاكرة قصيرة الأمد بشكل مؤقت. وإذا لم تتم معالجتها أو تكرارها بشكل متكرر، فإنها تختفي بسرعة. وقد أظهرت الأبحاث أن مدة تخزين المعلومة في الذاكرة قصيرة الأمد قد لا تتجاوز عشرين إلى ثلاثين ثانية في غياب التكرار أو التركيز على المعلومة.
على الرغم من أن مدة الذاكرة قصيرة الأمد قصيرة للغاية، فإنها تعتبر ضرورية للغاية للقيام بالأنشطة اليومية. على سبيل المثال، عندما نتحدث مع شخص ما ونحتاج إلى تذكر بداية المحادثة أو موضوعها بعد لحظات قليلة، فإننا نعتمد على الذاكرة قصيرة الأمد.
سعة الذاكرة قصيرة الأمد
تتسم الذاكرة قصيرة الأمد بأنها محدودة في سعتها. وقد كان هناك العديد من الدراسات التي تناولت قياس سعة الذاكرة قصيرة الأمد، وأحد أشهر هذه الدراسات قام بها العالِم جورج ميلر في الخمسينات من القرن الماضي. في دراسته الشهيرة، أشار ميلر إلى أن السعة النموذجية للذاكرة قصيرة الأمد تكون حوالي “سبع وحدات” (أي سبع عناصر من المعلومات، سواء كانت أرقامًا أو كلمات أو صورًا)، وقد أطلق عليها مصطلح “سبعة زائد أو ناقص اثنان”.
ورغم أن هذا الرقم “سبع” يُعد قاعدة عامة، إلا أن سعة الذاكرة قصيرة الأمد قد تختلف من شخص لآخر وتختلف أيضًا وفقًا لنوع المعلومات التي يتم تخزينها. ففي بعض الحالات، قد نجد أن الشخص يستطيع تذكر أكثر من سبع وحدات إذا كانت هذه الوحدات مرتبطة ببعضها البعض أو إذا كانت هناك تقنيات خاصة لتسهيل التذكر، مثل التجميع أو التكرار.
آليات الذاكرة قصيرة الأمد
يعمل الدماغ البشري على معالجة المعلومات في الذاكرة قصيرة الأمد بطرق متعددة تعتمد على عوامل عدة مثل الانتباه والتركيز. فكلما زاد انتباهنا إلى المعلومة، كانت الذاكرة قصيرة الأمد أكثر قدرة على تخزينها مؤقتًا. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الذاكرة قصيرة الأمد تعتمد على عدد من العمليات العقلية التي تساعد في تحسين استرجاع المعلومات وتخزينها، ومنها:
-
الترميز (Encoding): هو عملية تحويل المعلومات إلى شكل يمكن للدماغ تخزينه. يمكن أن يكون الترميز مرئيًا أو سمعيًا أو من خلال معاني مجردة. على سبيل المثال، عند محاولة تذكر رقم هاتف، قد نقوم بترميز الرقم في شكل سلسلة من الأرقام التي نسهل تذكرها.
-
التكرار (Repetition): يُعتبر التكرار من الطرق الفعالة لتثبيت المعلومات في الذاكرة قصيرة الأمد. إذا قُمنا بتكرار المعلومة عدة مرات، فإنها تصبح أكثر قابلية للبقاء في الذاكرة لفترة أطول.
-
التجميع (Chunking): هو تقنية تساعد في تحسين سعة الذاكرة قصيرة الأمد عن طريق تجميع المعلومات إلى وحدات أو مجموعات ذات معنى. على سبيل المثال، عندما نتذكر رقم هاتف مكون من عشر أرقام، فإننا قد نقسمه إلى ثلاث مجموعات من الأرقام (مثل 123-456-7890) لتسهيل عملية تذكره.
-
الاسترجاع (Retrieval): بعد تخزين المعلومات في الذاكرة قصيرة الأمد، يحتاج الدماغ إلى استرجاع هذه المعلومات عندما نحتاج إليها. يمكن أن يكون الاسترجاع مباشرًا إذا كانت المعلومة موجودة بشكل طفيف في الذاكرة، ولكن إذا كانت المعلومة قد تلاشت سريعًا، قد يكون من الصعب استرجاعها دون ممارسة مستمرة.
العوامل المؤثرة في الذاكرة قصيرة الأمد
تلعب عدة عوامل دورًا في قدرة الذاكرة قصيرة الأمد على الاحتفاظ بالمعلومات واسترجاعها. من بين هذه العوامل:
-
التشويش: يمكن أن تؤثر المحيطات المزدحمة أو الانشغال الذهني على قدرة الذاكرة قصيرة الأمد في حفظ المعلومات. ففي حال كان الشخص تحت ضغط أو في بيئة مليئة بالمشتتات، قد يواجه صعوبة في تذكر المعلومات.
-
التوتر: التوتر والضغوط النفسية يمكن أن يؤثران سلبًا على وظيفة الذاكرة قصيرة الأمد. قد يؤدي التوتر إلى تقليل قدرة الدماغ على التركيز ومعالجة المعلومات بشكل فعال.
-
السن: مع تقدم العمر، قد يواجه الأفراد بعض التغيرات في وظائف الذاكرة، بما في ذلك انخفاض قدرة الذاكرة قصيرة الأمد على تخزين المعلومات واسترجاعها بسرعة. ومع ذلك، يمكن تحسين هذه القدرة من خلال التدريب العقلي والنشاط الذهني المستمر.
-
النوم: النوم الجيد يعتبر أساسيًا لتحسين الذاكرة قصيرة الأمد. أظهرت الدراسات أن النوم الجيد يساعد الدماغ على معالجة وتخزين المعلومات بشكل أفضل، مما يعزز قدرة الذاكرة على الاحتفاظ بالبيانات.
العلاقة بين الذاكرة قصيرة الأمد والذاكرة طويلة الأمد
على الرغم من أن الذاكرة قصيرة الأمد تعد محدودة في سعتها ومدة تخزينها، إلا أن هناك علاقة وثيقة بينها وبين الذاكرة طويلة الأمد. فعندما نقوم بمعالجة المعلومة في الذاكرة قصيرة الأمد بشكل مستمر أو بطرق مبتكرة، قد يتم تحويل هذه المعلومة إلى الذاكرة طويلة الأمد.
مثال على ذلك، إذا كانت لدينا قائمة من العناصر التي نحتاج إلى تذكرها على المدى الطويل، فإننا قد نستخدم تقنيات مثل التكرار أو التجميع لتحويل هذه العناصر إلى ذاكرة طويلة الأمد. هذه العملية تعرف باسم “التثبيت” أو “الترسيخ” (Consolidation).
تطبيقات عملية لفهم الذاكرة قصيرة الأمد
فهم كيفية عمل الذاكرة قصيرة الأمد يمكن أن يكون له تأثير كبير على حياتنا اليومية. في مجال التعليم، على سبيل المثال، يمكن أن تساعد الأساليب التعليمية التي تعزز التكرار، والتجميع، والانتباه على تحسين قدرة الطلاب على تذكر المعلومات الجديدة. كما أن الرياضيات والعلوم تتطلب غالبًا استخدام الذاكرة قصيرة الأمد لحل المشكلات المعقدة.
في مجال العمل، يمكن للمحترفين الاستفادة من تقنيات تحسين الذاكرة قصيرة الأمد في تسهيل اتخاذ القرارات اليومية، سواء كان ذلك في الاجتماعات أو عند التعامل مع معلومات متعددة في وقت واحد.
الختام
الذاكرة قصيرة الأمد هي إحدى الأسس التي يعتمد عليها دماغ الإنسان لتخزين المعلومات التي نحتاجها بشكل سريع وعابر. ورغم أن سعتها ومدة تخزينها محدودة، فإن لها دورًا حيويًا في حياتنا اليومية. إن فهم كيفية عمل هذه الذاكرة وكيفية تحسين أدائها يمكن أن يساعد في تحسين العديد من جوانب الحياة، من التعليم إلى العمل إلى العلاقات الشخصية.
