صناعة العطور من الأزهار

كيفية صناعة العطور من الأزهار: رحلة في فن استخراج الجمال من الطبيعة

تُعد صناعة العطور من الأزهار من أقدم الفنون التي عرفها الإنسان، فهي تجمع بين العلم والدقة والحس الفني العالي، وتعكس ارتباط البشر بالطبيعة وسعيهم المستمر لاستخلاص عبقها وتعبئته في زجاجات أنيقة. يعود تاريخ استخدام العطور إلى الحضارات القديمة في مصر وبلاد ما بين النهرين والهند، حيث استخدمت الزيوت العطرية لأغراض دينية وجمالية وطبية. واليوم، تستمر هذه الحرفة الراقية في التطور، مستندة إلى تقنيات علمية متقدمة دون أن تتخلى عن جوهرها الطبيعي.

يمثل استخراج العطور من الأزهار جوهر فن العطارة، إذ تحتوي الأزهار على زيوت عطرية متطايرة تعطيها رائحتها المميزة. ويستلزم الحصول على هذه الزيوت العطرية سلسلة من العمليات الدقيقة التي تختلف حسب نوع الزهرة وطبيعة المركبات العطرية الموجودة فيها. في هذا المقال، سيتم تناول مراحل صناعة العطور من الأزهار، والتقنيات المختلفة المستخدمة لاستخلاص الزيوت، إلى جانب نظرة تحليلية للمكونات الكيميائية ودورها في تشكيل الرائحة النهائية.

أولاً: الزهور كمصدر للعبير

تلعب الأزهار دورًا محوريًا في صناعة العطور، فهي تقدم مروحة واسعة من الروائح تتراوح بين الحلوة والمنعشة، والداكنة والدافئة، والمثيرة والعميقة. ومن أشهر الزهور المستخدمة في هذا المجال:

• الورد الدمشقي: يحتوي على أكثر من 300 مركب عطري، ويُعتبر أحد أهم الزهور في صناعة العطور الفاخرة.

• الياسمين: ذو رائحة غنية ومركّبة، ويدخل في تركيبة عدد كبير من العطور الشرقية والغربية.

• زنبق الوادي: يمنح نضارة وعذوبة، ويستخدم بشكل خاص في العطور الربيعية.

• النرجس: ذو رائحة مميزة قوية، يستخدم بكميات ضئيلة نظراً لقوة رائحته.

• زهرة البرتقال (نيرولي): تُستخرج منها زيوت زهرية منعشة تُستخدم في العطور الرجالية والنسائية.

ثانياً: طرق استخلاص الزيوت العطرية من الأزهار

يوجد عدد من الطرق المتخصصة لاستخلاص الزيوت العطرية من الأزهار، ويُختار الأسلوب المناسب وفقًا لنوع الزهرة وحساسية مركباتها العطرية. من أبرز هذه الطرق:

1. التقطير بالبخار (Steam Distillation)

تُعد هذه الطريقة من أكثر الطرق شيوعًا لاستخلاص الزيوت العطرية، وهي تعتمد على تمرير بخار الماء عبر الزهور لاستخراج الزيوت المتطايرة منها. يتم بعد ذلك تكثيف البخار في أنابيب مبردة، ليتم فصل الزيت عن الماء.

الميزات:

• مناسبة للزهور القوية مثل اللافندر والنعناع.

• تعطي زيتًا نقيًا عالي الجودة.

العيوب:

• لا تصلح للزهور الحساسة كالورد والياسمين، حيث يؤدي البخار إلى تدمير بعض المركبات العطرية.

2. الاستخلاص بالمذيبات العضوية (Solvent Extraction)

في هذه الطريقة، تُنقع الأزهار في مذيبات عضوية مثل الهكسان أو الإيثانول، مما يؤدي إلى استخراج المركبات العطرية والشموع والراتنجات. يُزال المذيب لاحقًا بالتبخير، وتتبقى مادة نصف صلبة تُعرف بـ “الكونكريت”، يتم بعد ذلك غسلها بالكحول لإنتاج “الأبسولوت”.

الميزات:

• مثالية للزهور الحساسة مثل الياسمين والورد.

• تُنتج روائح أقرب إلى رائحة الزهرة الأصلية.

العيوب:

• استخدام المذيبات العضوية قد يترك آثارًا في المنتج النهائي، ما لم تُراعَ المعايير الصناعية بدقة.

3. طريقة الإنهماش (Enfleurage)

طريقة تقليدية قديمة تعتمد على امتصاص الزيوت العطرية بواسطة الدهون الحيوانية أو النباتية، حيث تُرص الزهور على طبقة من الدهن في ألواح زجاجية، وتُبدل الأزهار دوريًا حتى تتشبع الدهون بالزيت العطري.

الميزات:

• مثالية لاستخلاص العطور من الزهور النادرة والحساسة جدًا.

• تُنتج روائح طبيعية عالية النقاء.

العيوب:

• مكلفة جدًا وتستغرق وقتًا طويلاً.

• لم تعد تُستخدم على نطاق واسع.

4. الاستخلاص بثاني أكسيد الكربون فوق الحرج (CO2 Extraction)

تقنية حديثة ومتقدمة تُستخدم فيها درجة حرارة منخفضة وضغط مرتفع لتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى حالة “فوق حرجة” تعمل كمذيب طبيعي، يُستخلص بها الزيت العطري.

الميزات:

• آمنة وصديقة للبيئة.

• تُنتج زيوتًا نقية وعالية الجودة.

• تحفظ المركبات العطرية الحساسة.

العيوب:

• تتطلب معدات متطورة وتكلفة عالية.

ثالثاً: المكونات الكيميائية في العطور الزهرية

تتكون الزيوت العطرية من عدد كبير من المركبات الكيميائية الطبيعية التي تمنح الزهرة رائحتها الفريدة. ومن أهم هذه المركبات:

تفاعل هذه المركبات معًا يشكل النغمة العطرية الشاملة التي تميز العطر. وتختلف نسب هذه المركبات حسب الزهرة، وموسم القطف، وظروف التخزين والمعالجة.

رابعاً: خطوات تصنيع العطر بعد استخراج الزيت

بعد الحصول على الزيت العطري الخام، يتم الانتقال إلى المرحلة التالية وهي صياغة العطر، وهي عملية فنية دقيقة تتطلب مهارة كبيرة في المزج لتحقيق التوازن بين المكونات العليا (Top Notes)، والمكونات الوسطى (Heart Notes)، والمكونات القاعدية (Base Notes).

1. مرحلة المزج (Blending)

يتم مزج الزيوت العطرية مع الكحول (عادة الإيثانول) بتركيز يختلف حسب نوع العطر:

• عطر نقي (Parfum): 20-30% زيت عطري.

• ماء عطر (Eau de Parfum): 15-20%.

• ماء تواليت (Eau de Toilette): 5-15%.

• ماء الكولونيا (Eau de Cologne): 2-5%.

2. مرحلة التثبيت (Aging)

بعد المزج، يُترك العطر ليستقر في زجاجات مغلقة في أماكن مظلمة وباردة لمدة تتراوح بين أسابيع إلى عدة أشهر. هذه المرحلة تسمح للمكونات بالاندماج وتكوين رائحة متجانسة.

3. التصفية والتعبئة

تُزال الشوائب بواسطة ترشيح دقيق باستخدام ورق خاص أو فلاتر دقيقة، ثم يُعبأ العطر في زجاجات جاهزة للتسويق.

خامساً: دور الموسم والموقع الجغرافي في جودة الزهور العطرية

تؤثر الظروف المناخية والتربة وموقع الحقل الزراعي بشكل كبير على جودة الزهور المنتجة للزيوت العطرية. فالورد الدمشقي على سبيل المثال، يزدهر في المناطق الجبلية السورية ذات الطقس المعتدل والتربة الغنية. ويُقطف غالبًا في ساعات الفجر الأولى حيث تكون الزهرة في ذروة عطريتها.

كما تُعد مدينة غراس الفرنسية عاصمة العطور في العالم، بفضل مناخها المعتدل وتربتها الخصبة التي ساعدت في إنتاج زهور عالية الجودة، تُستخدم زيوتها في أشهر العلامات العطرية العالمية.

سادساً: معايير الجودة في صناعة العطور الزهرية

يُقيّم العطر بناءً على عدد من المؤشرات الأساسية، منها:

• نقاء الزيت العطري: يجب أن يكون خاليًا من المواد الاصطناعية أو المخففات.

• ثبات الرائحة: قدرة العطر على البقاء لفترة طويلة على الجلد.

• التدرج العطري: توازن المكونات العليا والوسطى والقاعدية.

• الانسجام: امتزاج الروائح بطريقة سلسة دون تباين حاد.

وتُجري المختبرات المتخصصة اختبارات دقيقة على الزيوت العطرية باستخدام تقنيات مثل التحليل الكروماتوغرافي وقياس الطيف الكتلي للتأكد من النقاء والتركيب.

سابعاً: الاستدامة والأثر البيئي لصناعة العطور

تشهد صناعة العطور اليوم توجهًا متزايدًا نحو الاستدامة البيئية. ويتمثل ذلك في عدة جوانب:

• الزراعة العضوية: تقليل استخدام المبيدات في زراعة الزهور.

• إعادة التدوير: استخدام عبوات قابلة لإعادة الاستخدام.

• بدائل نباتية: اللجوء إلى زيوت مستخلصة بطريقة صديقة للبيئة.

كما بدأ بعض المنتجين في تقليل الاعتماد على الزهور الطبيعية لصالح المكونات الحيوية المصنعة في المختبر، والتي تُحاكي الرائحة الطبيعية دون التأثير على البيئة أو النباتات النادرة.

المراجع:

1. Steffen Arctander, Perfume and Flavor Materials of Natural Origin, 1960.

2. Poucher’s Perfumes, Cosmetics and Soaps, Volume I–III, G.W. Askinson, 10th Edition.